عمان ـــ علي عبد الأميركأنّه مع رفيقة دربه، وأحد أقرب تلامذته الى نفسه، اختاروا احتفالاً خاصاً للرحيل. الفنان العراقي رافع الناصري (1940) أغلق عينيه فجر السبت 7 كانون الاول (ديسمبر) في العاصمة الاردنية التي أحبها ورشقها بالكثير من فنه وإبداعه. قبل أسبوعين، كانت عمّان تحتفي به عبر معرض استعادي (رافع الناصري 50 عاماً من الرسم والطباعة) وثّق نصف قرن من تجربة شكّلت منظوراً بصرياً معاصراً، كأنّه كان على النقيض من تحولات بلاده، فهو يمضي الى أقصى الجمال، بينما يمضي العراق الى أقصى الوحشة والقسوة.

في «المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة»، احتشد محبوه ومريدوه. كان يبتسم بنظرات خاصة تلتمع في عينيه، وينهض رقيقاً من مرضه العضال، كأنه يشهق بالعرفان والامتنان. كان الحدث مرسوماً بأناقة بالغة، فيه الكثير من روح رفيقته وزوجته الشاعرة والناقدة مي مظفر، وعمل من أجله بجهد ودأب تلميذه الرسام خالد رحيم وهل الذي سافر الى بغداد ليستعيد الكثير من مقتنيات الناصري، وأعماله التي امتدت على رحابة التجربة التشكيلية العراقية والعربية المعاصرة، ثم انشغل بترميم اللوحات والاعمال الغرافيكية والتخطيطات. وإذا كانت لوحة الناصري معروفة باتصالها مع دلالات الافق المفتوح وقراءة تطوراته البصرية المتسمة بالسعة والامتداد، فانّ «المزاج الاشراقي» بدا مميزاً لاعماله في العقد المنصرم. ظلّ يتلمس تأثيرات العصر وتقلباته بوعي وادراك عميقين، فلوحته معاصرة دوماً في الاسلوب والتنفيذ والرؤية، مؤكداً أنّ كل معرض جديد لا يشكل انفصالاً عن كامل تجربته، بل هو استمرار في الشكل واللون وباقي العناصر. لم يكن يائساً اللهم الا من حال بلاده. شكّل الغزو الأميركي مقتلاً حقيقياً لبغداده الشخصية التي كان يباهى بجمالها الروحي الفريد فصارت أندلسه الضائعة. كان يواجه مقولة انحسار قدرة الفن على التأثير في الذائقة، وخفوت دوره الجمالي التحريضي بالقول: «بتصوّري، هناك سببان لهذا الخفوت في الدور الجمالي: الأول يتصل بالحال السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدت تراجعاً منذ أكثر من 20 عاماً، والثاني هو انحسار اهتمامات الفنان الفكرية بعدما كان محرّضاً على نشر الوعي الفني».
رأى أنّ الضعف يكمن اليوم في عجز العمل الفني عن الاتصال مع المتلقي، بينما كانت أعمال عميقة قادرة على إقامة صلة مع جمهور عريض قبل ربع قرن أو أكثر، عائداً الى أنّ «كل الأفكار والمعتقدات ومنها السياسة، كانت أصيلة ونابعة من إدراك وفهم عميقين، ومن صدق روحي أيضاً. اليوم، تحول كل شيء الى نتاج «مستعمل» لا أصالة فيه، ومنه الفنون. كل شيء أصبح سلعة للبيع، ومنها أفكار الفنان». صحيح أنّه كان يشعر بمرارة تقارب اليأس، إلا أنّه ظلّ عصياً على الانكسار، مؤكداً: «نعم أشعر بالكثير من الألم، لكن ليس الانكسار».
هذه الروح من الدأب ومناكفة اليأس كانت تتجلى لا في عمله الفني المحض، بل في نشاط أكاديمي رصين، فهو أستاذ الفنون لسنوات في بغداد يوم كانت الثقافة عموداً اساسياً من أعمدة بنائها المعاصر، وأستاذ في أكاديميات الفنون في الأردن والبحرين، مثلما هو صاحب المراجعة النقدية الفنية المهمة في أكثر من كتاب. نشاط ظل متصلاً بمشروعه الجمالي الشديد الخصوصية، مثلما كان امتداداً لسيرة من تأصيل الحداثة الفنية بروحية محلية ولحظة راهنة تعبر الى «ما بعد الزمن» (عنوان معرض له في عمان عام 2010). كتب الناصري مرة: «في الغربة ومع تقدم سنوات العمر، يتداخل الزمن تلقائياً بين ماض وحاضر، وقديم وحديث، حينها تتوالى الصور والذكريات». كان يقصد يومها تجربته القائمة على «طواف بين أزمان وحالات مختلفة تتغنى بالوطن والحب والجمال».