يدعونا ديوان «النازلون على الريح» (دار الآداب) الذي وقّعه محمد علي شمس الدين (1942) أمس ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» إلى ذلك الشعر الذي يحلّق بجناحي الإيقاع واللغة المتدفقة. شعرٌ بات قليلاً في الوقت الراهن، ويكاد لا يُقبل عليه أحد من الشعراء الجدد الذين يغرقون في النثر قبل تعرّفهم إلى الأوزان التي لا يُجيدها أغلبهم أيضاً. لسنا في لحظة نقدية مواتية لتفسير ما يحدث في الشعر العربي اليوم، ولكن تفشّي النثر فيه كنموذج مستقبلي وحيد يجعلنا نحتفي بديوان شمس الدين كما لو أنه كائن شعري في طريقه إلى الانقراض.
هكذا، نتخفف قليلاً من مذاقات النثر، ونسمح لأنفسنا بالتلذذ مجدداً بانسيابية الكلمات وهي تصنع الصور والاستعارات، وتمزجها بسلاسة الوزن الذي وصل فيه الشاعر بعد تجربته الطويلة إلى مراتب الحكمة، حيث يمارس نفوذه القوي على اللغة، ويستثمر جزالتها وسرديتها، ويتفنّن في توصيل مقاصده بحساسية العارف بالممكنات التي تقدمها له الإيقاعات العائمة على تراثٍ خصبٍ وبحور أصيلة. لا تزال التفعيلة التي بدأ بها شمس الدين ديوانه الأول «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» (1975) تجد لها استخداماتٍ متطوّرة وجديدة تُعين صاحبها على النظر إلى اللغة والتجربة الذاتية من زوايا متعددة. التفعيلة التي اختلطت لاحقاً بالمناخات الصوفية والكونية، واغتنت من الاحتياطي الضخم والثريّ للشعر العمودي والحرّ، وظلت على صلة بمشهديات الواقع وعناصره أيضاً.
ما نقرأه هو شعرٌ يتأرجح بين زمن قديم وزمن أحدث، ولكنه منحازٌ في جوهره إلى الزمن الأول، ويتغذّى في الوقت نفسه من تأملاتٍ عميقة في الزمن الثاني. مزيجٌ نراه في أغلب قصائد الديوان، ويبدأ من القصيدة الأولى المهداة «إلى أبي حامد الغزالي في محنته»: «ماذا سيكون إذن بيدي؟ سيّان أكنتُ النائم أم كنتُ الصاحي/ خذلتني الرؤيا، وصباحي/ أفلتَ من كفّ الليلْ/ فلأخرجْ من بين سيوف النوم قليلاً/ وأحدّقَ في هذا الويل/ في الجهة الشرقية من غرفة أحوالي/ (حيث صنوبرةٌ تنشط فيها الغربان)/ وفي الجهة الغربية (حيث الشطآنُ يعذّبها سوط الموج)/ أحدّق بين هنا وهناك/ لأعرف سرّ البحر/ وسر الشجرة/ دُقَّ البابْ/ الوقتُ سرابْ/ يوم الأحد الواقع تقريباً فيه صمتي/ آليتُ بأني (منتقماً من هذا العالم)/ لن أخرج من بيتي/ فليبقَ الخارجُ في الخارج/ والداخلُ يبقى في الداخلْ/ وأنا بينهما/ أتأرجحُ كالمرتابْ».
السرد قليلٌ في هذا الشعر، ووجوده القليل محكومٌ بشروط الإيقاع، وهو ما يُبقي فكرة النثر المدفونة فيه منتميةً إلى تراث الوزن، وليس إلى مستقبل النثر. ملاحظةٌ مثل هذه تبدو ضرورية لتمييز تجربة صاحب «منازل النرد» (1999) عن تجارب إيقاعية أخرى كسر أصحابها نفوذ الوزن وغنائياته بروحية النثر الجاف والحيادي وسياقاته الاستطرادية ومناخاته اليومية والشفوية. لقد استثمر شمس الدين هذه الروحية النثرية بالطبع، لكن الغَلَبَة غالباً ما كانت لصالح كثافة الإيقاع، وجزالة النبرة، وفصاحة المعجم. يُضاف إلى ذلك مراسٌ شخصيٌ طويلٌ وطواعيةٌ مدهشة مع اللغة. اللغة التي لا يزال الشاعر يعلن عن علاقته المتينة بماضيها، فيكتب أبياتاً خليلية كاملة كما في قصيدة «طلل»، أو يُنجز قصائد مدوّرة لا يتوقف لهاث إيقاعها كما في قصيدة «الهجرتان»، أو يُشهر قرابته التخييلية مع أسماء مثل: أبو نواس، والمتنبي، وابن جنّي، والحلاج، والغزالي، وفريد الدين العطّار، وقَطَري بن الفُجاءة. هناك قيمة مجازية ترفع هذا الشعر فوق الواقع العادي، وتحرّره من شرط الزمن، ولذلك تكثر فيها أعمال الخيال على حساب مسمَّيات الواقع. في الحالتين، تتحالف اللغة مع الإيقاع في إنجاز صورٍ يختلط فيها التأمل والتصوف بمتانة اللغة وتدفق الإيقاع. خليطٌ ينبعث من أغلب قصائد الديوان، فلا نحتاج إلى تدقيق كي نقتبس صوراً محددة. إنها قصائد «تعيشُ غربتين: غربة المجاز حينما يضيع في الحقيقة/ وغربة الحقيقة التي تضيع في المجاز/ كأنما الإعجاز أن تظلَّ صامتاً/ وأن يُديرَ ملككَ الخَدَم». الشعر يتحقق في هذه المساحات التي لا يتحدد فيها المعنى بدقة، بل يُترك رجراجاً ومتماوجاً، بينما الشاعر قادر أن يكتب كل ذلك في عزلته: «في عزلتي/ عرفتُ هذه الوجوه كلها/ عرفتُ شمسها وظلها/ ولم أخضْ (كي أعرف الحروبَ) في الحروب/ (والبحارَ) في البحار/ ولم أدُرْ (لأعرف الأفلاكَ) حول الشمس في مدارْ/ جلستُ في سكون وحدتي/ ومن هناك/ بين حرف الكافِ والسكونْ/ كتبتُ سرّها المكنونْ». لعلّ شعوراً مماثلاً ينتابُ القارئ أيضاً. القارئ الذي ما أن ينتهي من الديوان، حتى يحس بأنه «تعب» من «النزول على الريح»، وأنه نال نصيبه من التحليق مع اللغة المتدفقة والإيقاعات العالية، وآنَ له أن يعود إلى قصائد النثر التي تحتفي بمشهديات الواقع، وتمتدح «ركاكته» الراقية.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




في مديح العزلة

رغم طلاقته الإيقاعية، وجزالة جملته الشعرية، إلا أن صاحب «الغيوم التي في الضواحي» يُنسينا الوزن برهانه على المعنى الواضح والاستعارات الرشيقة. الشاعر الذي نشر 15 ديواناً حتى الآن، وصدرت أعماله الشعرية في مجلدين قبل أربع سنوات، تجنّب منذ بداياته التهويم اللغوي الذي يفرضه التنامي الغنائي واللغوي في قصيدة التفعيلة، وانحاز إلى قصيدة حديثة يمكن أن تعوم على تراث الشعر العربي، وأن تكون على صلة بتأملات يومية وصوفية وكونية. لا يزال الشاعر يحنّ إلى صورته التقليدية كصوت للجماعة، ولكنه يدافع عن فرديته الهشة، ويحتفي بعزلته التي تسمح بتسرّب العالم الخارجي إلى الداخل، كي يمرّ الشعر الحقيقي في الاتجاهين.