في كتابها الجديد «وجوه من سوريا»، الصادر حديثاً عن «دار السّاقي»، تبتعد هيفاء بيطار عن عوالمها الروائيّة والقصصيّة لصالح الوجع السوريّ اليوميّ. تنحو إلى تسجيل بعضٍ من صوره المؤلمة، متتبّعةً آثار أناسٍ ما زالوا يقيمون داخل حدود الوطن الجريح، وما زالوا على قيد الحياة رغم أنّ الواقع الدّامي يصنّفهم شهداء مع وقف التنفيذ.
وإذ تهدي بيطار كتابها إلى «أطفال سوريا الذين يعلّموننا أن نكون مثلهم مساكن حبّ لأنّ بالحبّ وحده يمكن بناء الوطن»، فهي لا تنسى في مقدّمتها أن تشير إلى استحالة الكتابة من قلب دوّامة الموت. تقول: «يستحيل كتابة رواية وأنا جالسة على فوهة بركان. لن يتمكّن قلمي من اللحاق بكلّ هذا القتل والدمار والنزوح. كيف يمكن كتابة رواية لم تنجز فصولها بعد؟ كيف يمكن الكتابة وأنا أقيم في فوهة جرح مفتوح وملتهب اسمه سوريا؟». ومن هنا، يأتي العمل كمحاولة لحفر خطّ في كتاب يسعى الجميع إلى تدوين رؤاهم بين دفتيه اللتين لن تغلقا في وقت قريب، وبالتالي يمكن للكتابة أن تكون «ثورة على الذّات ضدّ الخوف».
عشرون حكاية ترويها بيطار في كتابها تسجّل فيها حكايات وشهادات لأناس ما زال كلّ منهم يواجه الموت ويقاومه على طريقته في الدّاخل السوريّ. الكاتب يخرج عن صمته الذي طال ليبدأ بتسجيل حقائق ستودي به إلى الموت برصاصة مجهولة المصدر. بينما تجد العداوة طريقها إلى قلبي الطفلين الصديقين إياد وحسام بعد أن يموت والداهما في اليوم ذاته في معركة بابا عمرو. إلا أنّ والد حسّان يموت وهو يقاتل في صفوف الجيش السوريّ، بينما يموت والد إيّاد في صفوف المتظاهرين في المقلب الآخر، ويقال إنّه كان يحمل السّلاح أيضاً. يجد كلّ من الطفلين مبرّراً ليتّهم والد صديقه بأنّه قاتلُ أبيه. ومن بين الحكايات، تطلّ أم كفاح التي تعيش الذعر منذ اختفاء ولدها الذي ألحقوه بالجنديّة ليقاتل «العصابات الإرهابيّة»، فتختصر بصرختها الكثير من الوجع وهي تقول: « ألا يحقّ للإنسان أن يكون جباناً؟ ألا يحقّ له أن يرفض حمل السّلاح؟» كلّ ذلك بينما عبارة «الشهيد البطل» باتت تغطّي الجدران منقوشةً تحت صور شبّان أكلتهم الحرب في وطنهم لتعيدهم أوراق نعي على جدرانه.
وبينما تثور «هلال» الفتاة النّازحة من حلب إلى اللاذقيّة في وجه مواطنتها التي تتسوّل باسم مدينة حلب، فإنّ هبة تروي حكاية استشهاد شقيقها اسماعيل تحت التعذيب في أحد فروع الأمن بعد اعتقاله بسبب كتاباته المناصرة للثورة في صفحته على فايسبوك، ويعيش هيثم حالة من الهلع والذعر جرّاء استدعائه مجدّداً إلى فرع الأمن الذي أمضى فيه أربعين يوماً تحت التعذيب مع زملائه في العمل قبل أن يفرج عنهم بعفو رئاسيّ ليغدو «ذعره ينبض في راحته كعصفور مذبوح لتوّه». أمّا أمير، فيتحوّل إلى «الرّجل الصّرخة» حيث لا صراخ ينفع وسط صوت الرّصاص والقذائف، وتتسلّل الثورة إلى نفس رلى لتثور أخيراً على زوجها رجل المخابرات الذي أمعن في اضطهادها كزوجةٍ طيلة الوقت.
حكايات أناس يوحّدهم الخوف والموت رغم اختلاف مشاربهم وتطلعاتهم وآمالهم، تحاول الكاتبة مقاربتها من وجهة نظر شخص يعيش الحدث يوماً بيوم، وربّما هذا ما جعل لغة الكتاب عاطفيّةً تنحو نحو إنشائيّة بسيطة بدت في معظم الأوقات غير قادرة على تصوير وجع الحكاية كونَه الأكثر بلاغةً. وربّما هذا ما دفعها إلى التكرار في مواضع كثيرة كقولها «لو أنّه قتل في فلسطين، لو كان يحارب الصهاينة»، أو «لا أصدّق أنّ الموت في سوريّا». وإذ حاولت بيطار خلق معادلة متوازنة بين رأيين حادّين متناقضين يسودان المشهد السوريّ، فقد بدا خطابها كمن يحاول السّير بين قطرات المطر من دون أن يصيبه البلل.
لا شكّ في أنّ الحروب كانت وستبقى مادّة غنيّة للكتابة والإبداع، إلّا أنّ «وجوه من سوريا» لم يخرج عن المألوف الذي أنتجته الثورة السوريّة من أدب انفعاليّ عاطفيّ يحاول في بعض مناحيه أن يستمدّ قيمته من قيمة الوجع اليوميّ من دون أن ينجح في مقاربته.