ما زالت فرقة «كركلا» تنتج عروضاً منذ عام 1972 الى اليوم لتقدّمها في الوطن العربي والعالم الغربي ببصمة عبد الحليم كركلا المؤسلبة الخاصة التي نبَعتْ من مزيج بين عناصر مختلفة من الرقص الكلاسيكي والعصري والتراث اللبناني والشرقي، بالإضافة الى لوحات ملونة جميلة من حيث السينوغرافيا والأزياء. أين أصبحت الفرقة الآن؟ وماذا بقي من هذا المزيج ومن أسس الرقص التراثي؟
بعدما تطورت الفرقة على مدى السنوات الطويلة من فرقة شعبية الى مسرح راقص، مالت في الآونة الأخيرة الى المسرح الغنائي، إلا أنّ عرضها الجديد «كان يا ما كان» الذي افتتح أمس، يستعيد طابع المسرح الراقص وهو العرض الخامس عشر منذ أن تأسست فرقة «كركلا» (1968). يشترك في العمل هدى حداد غناءً، وجوزيف عازار ورفعت طربيه أداءً ومجموعة كبيرة من الراقصين والممثلين الذين يجسدون أحداث ثلاث حكايات مختلفة ومتفرِّقة في «تريلوجي» رقصاً على وقع موسيقى معظمها لرمسكي كورساكوف (من مقطوعة شهرزاد) وموريس رافيل (من مقطوعة بوليرو) وموسيقى فولكلور، كل منها على
حدة.
توزع الراقصون على خشبة مسرح مقسَّمة الى مستويات عدة، مما كان ضرورياً لتشكيل لوحات راقصة ذات أبعاد مختلفة أعطت رونقاً للتحرك في الفضاء، خصوصاً عندما أدخِل البعد الافتراضي للعرض وهو عبارة عن شاشة تنقل إلينا أحداثاً أخرى في المكان الآخر. وقد تم العمل على نِسب الأحجام بين ما يدور على الشاشة وما يدور على الخشبة بشكل دقيق وجميل بصرياً جاء لصالح الإخراج المسرحي، إلا أن المَشاهد لم تكن واضحة تمثيلاً من الناحية الإخراجية. وكان يمكن الإفادة بشكل أعمق من الدراماتورجيا التي اكتفت بطرح خطوط عامّة للأحداث.
يتناول الفصل الأول حكاية الملك شهريار وشقيقه في عواصف الشغف والحب والانتقام في قالب من الأجساد الملونة التي ترسم لوحات تشكيلية متحركة بأزياء الراقصين الفولكلورية ذات التصاميم المبدعة من توقيع عبد الحليم كركلا. إلا أنّ الرقص بشكل عام ـــ خصوصاً في الفصل الأول ـــ اتسم بلغة جديدة تنتمي الى «كركلا» بدت كأنها خرجت عن مدارس الرقص بما فيها التراثي، مما كان له وقع سلبي على إيقاع الفصل الأول بشكل عام لعدم حيازتنا كجمهور مفاتيح في مخزون ذاكرتنا لهذا النوع من الرقص. أما الفصل الثاني، فقد نقلنا من برودة حياة البلاط الى عفوية وحرارة أجواء الأسواق وناسها. جاء إيقاع هذا الفصل ممسوكاً بشكل أكبر، رغم أنّ اللوحات لم تبلغنا الأحداث بشكل مفهوم وكان لا بد من الاستعانة بما ورد في البروشور عن أحداث كل فصل. تصاعَد إيقاع العرض في الجزء الأخير حين عدنا الى لبنان الحاضر برقص فولكلوري، مما كان متنفساً لنا من حيث التفاعل وتحديد الهوية الثقافية للرقص في العرض بعدما تهنا في دوامة من مفردات رقص بدت غريبة عنا.
أما الموسيقى، فكانت مزيجاً من حضارات مختلفة أضافت إحساساً بضياع الهوية الثقافية رغم توليف المقطوعات والأغنيات في توزيع موسيقي متجانس. كما قدِّم في أحد المَشاهد عزف لآلة الربابة تناقضَ مع الصوت المسجل الصادر عن كيبورد فجعلنا نتساءل عن مدى أهمية حضور الآلة على الخشبة إذا استحال سماع صوتها الحقيقي. جاءت صورة الربابة التراثية مع صوت الكيبورد لتذكرنا بصورة الراقصين الذين يتحلّون بأزياء تراثية، بينما رقصهم لا يُرجِع الى التراث.
عرض «كركلا» الجديد استمتع به الجمهور بشكل عام وتفاعل معه، لكن السؤال يفرض نفسه حول علاقة نوع الرقص الذي أطلقه عبد الحليم كركلا بالهوية الثقافية والتراثية اللبنانية والشرقية. الى أي مدى أصبح هناك فجوة بين الاثنين؟ وهل يصح وصف هذا النوع من الرقص الخاص بـ«كركلا» بأنّه محدَّث من أسس الرقص التراثي رغم غياب هذه الأسس بشكل شبه كلي، وهو يقدَّم في لبنان والخارج تحت هذا المسمى من دون الأخذ في الاعتبار ضرورة الحفاظ على صورة وأسس الرقص التراثي اللبناني؟ تطرَح هذه الأسئلة لصالح أهمية التسمية في نشر الوعي عن هويتنا الثقافية في لبنان والخارج، وليس موقفاً تصادمياً مع الفنان الذي يبتدع مدرسة جديدة، بل نفتخر بما وصلت إليه فرقة من بلادنا الى العالميّة.

«كان يا ما كان»: حتى 22 ك1 (ديسمبر) ــ «مسرح كركلا» (سن الفيل) ــ للاستعلام: 01/499904




مؤسسة (عائلية) كاملة

تعمل عائلة كركلا مجتمعة على خلق العرض الراقص، حيث يتولى كل منهم أدواراً أساسية في الفريق الفني. يهتم عبد الحليم كركلا بإطلاق الفكرة الرئيسية للعمل. كما أنّ الموسيقى والأزياء والحوارات تقع في خانة مسؤولياته بشكل عام، بينما تأخذ ابنته اليسار على عاتقها مسؤولية تصميم الرقص (الكوريغرافيا) ويضع الابن إيفان جميع العناصر في قالب مسرحي إخراجاً. لم يكتفِ عبد الحليم كركلا (مؤسس الفرقة) بإنتاج العروض، بل اتجه الى تأسيس أجيال عديدة من الراقصين باتباع منهج خاص به. أنشأ «مدرسة كركلا للرقص» التي درَّبت مئات الطلاب. كما أنشأ «مركز كركلا للأبحاث التراثية»، فتحول الى مشروع أكبر هو «مؤسسة مسرح كركلا» التي تملك مسرحاً خاصاً (مسرح الإيفوار) وهو إنجاز نادراً ما نراه في لبنان. حملت الفرقة اسم لبنان في العديد من المهرجانات العالمية والمناسبات الثقافية التي لا تحصى في الخارج. كما نالت العديد من الأوسمة والجوائز كوسام تقدير وثقافة من «مؤسسة شكسبير الملكية» وجوائز من مهرجانات «جرش» و«قرطاج» ومن رؤساء لبنانيين وعرب.