في اليمن شعراء شباب كُسالى. يكتبون ويطبعون دواوين كي يضعوها في أرشيفهم الخاص والعتمة، كأنّهم لا يريدون أن يعرف عنها أحد. يفعلون كل هذا بصمت. وهذه تقريباً حالة عامّة كما لو أنها ردّ من جهتهم على مجتمع لا يكترث بالشعر، فكيف بالقصيدة الجديدة؟ أحمد الزُّرَاعي (1970) واحد من أولئك الشعراء الذين يمارسون حراسة شخصية على إصداراتهم ولا يُعلم عنها إلا عن طريق مصادفة أو خبر صدور يخرج سهواً. نجد اليوم ديوانه الثاني «مفتَاح لأمكنة ضائعة» (مركز عبادي للدراسات والنشر ــ صنعاء) الذي خرج بعد وقت طويل من عمله الأول «أسلاف الماء» (2002). فترة طويلة تتناسب مع شكل الحياة البطيئة التي يعيشها ويقيم عليها أيامه المسنودة إلى التأمل في كل شيء. وعليه، لا نبرة زاعقة في نتاجه، بل مفردات تغرق في الهدوء كي تعطي انطباعات مباشرة عن حالة التوحد الإيجابية التي ينام فيها كلما خرج متأملاً المحيط الذي يقيم فيه. هو يخرج فقط كي يرى ويلتقط، ثم يقوم بعودة بطيئة إلى غرفته الخاصة المقيمة بعيداً عن حياة الآخرين.

وسيتم تشكيل تلك الالتقاطات المُنجَزَة عبر لغة لا تتخذ من الغموض هدفاً، بل تأخذ قليلاً منه بما يكفي لإنتاج حالة خفيفة من الغموض يدفع قارئاً محتملاً إلى السؤال: «ثمة بحر أعطيه، كل صباح، القش الهائل للكلام/ أعطيه أسماكاً ومرايا، وأهرول وحيداً، في الليل إلى حزن حديقة/ أدندن أغنية للصمت». كأنّ الزراعي يضع قصيدته الخاصة لتبدو منشغلة بشأنه الشخصي وبالاهتمام بطريقة تقديم هذا الشأن في صياغة تتماس مع نزعة ذاتية، وبقاء عملية إعادة تركيبه ليصبح مطابقاً لحالة شخصية بحتة تتقاطع مع سياق الحياة المحيطة به وتنويعاتها. وقد يكون هذا الانشغال بالذاتي والشخصي بارزاً في قصيدة الجيل المسنود إلى القالب الشعري الجديد. هو يأتي لأنّ المُنتج يتماشى وينساق مع السمات الشخصية نفسها التي يحملها الشعراء أنفسهم ويفعلونها في حياتهم اليومية التي تكاد أن تكون موصوفة ومصفوفة بالكامل في ثنايا الكتابة التي يفعلونها: «ما كنت أدري أن خُطواتي/ وأنا أعدو في هذه الأرض الهرمة/ تُخَلّفُ وراءها في كل خطوة غابةً». قد لا يمكن هنا تحاشي التنويه بأنّ هذا التطبيق الشعري يشير إلى الرغبة الكاملة في جعل القصيدة حاملة للحياة اليومية وإعادة تنسيقها في داخل المتن الشعري لتخرج في النهاية على هيئة تتشابه كثيراً مع أحوال الكتابة اليومية أو السيرة الذاتية لكل شاعر، فتصبح أشبه ببطاقة شخصية له: «أرى حُزنَ مَلِكة تشيخُ في عزلتها/ أرى دمي ابتسامة أخيرة للأرض/ أرى فتيات يأكلن لحمي/الفوضوي/دون قراءة لضجيج الأرض/في أضلاعي».
ولأحمد الزراعي هنا نبرته في سياق الشخصي بالرجوع إلى تفاصيل نمط حياته الذاتية وانغلاقه الإيجابي في ثنايا البيئة الطبيعية التي تحيط به، ولا ينجو منها في المتن الشعري الذي ينتجه، إذ غالباً ما يتخذ من مفردات تلك البيئة ومكوناتها وسيلة لخلق حوار، كأن نقرأ: «يا حمامة.. لا تحطي على الشجرة/ لا تحطي على العش/ لا تحطي على المنازل/ قلبي فارغ/ يا حمامة».