بغداد | «فنّان الشعب» الذي حفر اسمه في ذاكرة العراقيّين، وانتشرت أغانيه في العالم العربيّ، ودّع الحياة في دمشق يوم السبت بعد غربة دامت أربعين عاماً. رحل فؤاد سالم وحيداً وغريباً هناك، إلا من عائلته التي رافقته في محنته مع المرض. صاحب التجربة المختلفة في الغناء العراقيّ الذي يردّد أغانيه اليوم شابات وشبان من شتى الأعمار، كان دائماً ما يحاط بالعشرات من محبّيه كلّما زار بغداد والبصرة وأربيل في مناسبات ثقافيّة وفنيّة متباعدة بعد نيسان (أبريل) 2003، إلى أن أقعده المرض عن الحركة منذ بدايات العام 2012.

لم تنفع كلّ المحاولات والمناشدات لإنقاذ وضعه الصحيّ من التدهور السريع الذي عجّل من نهايته في أحد مستشفيات العاصمة السوريّة فجر يوم السبت الماضي. لكن لِمَ حظي فؤاد سالم (1945 البصرة ـــــــ 2013)، بكلّ هذه الشعبية والمتابعة غير المسبوقة لأخباره ونتاجه الفنيّ سواء داخل العراق أو خارجه؟ لعلّ أكثر من اسم فنيّ وثقافيّ غاب لفترات عن الذاكرة، إلا فؤاد سالم فقد شغلها على الدوام، فهو رائد الأغنية العراقيّة في السبعينيات، والمعارض الحقيقي لنظام «البعث»، بدءاً من فصله من «معهد الفنون الجميلة» في بغداد، إلى منعه من الغناء في الأماكن العامة، ثمّ منعه من دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون في
العاصمة.
حدث ذلك في فترة الجبهة الوطنية بين حزبي «البعث» و«الشيوعي». وبمجرّد اعتقاله وإطلاق سراحه ومن ثمّ ضربه ضرباً مبرحاً بأعقاب المسدسات بعد حفلة أحياها، غادر العراق في مطلع الثمانينيات، ليعلن من دمشق معارضته لنظام صدّام.
صوت تمكّن من رفد الحياة العراقيّة بجرعات من الأمل والبهجة كجزء من المواجهة الجماليّة للخيبة العراقيّة المستمرّة منذ عقود. ومنذ ظهوره الأوّل في أوبريت «بيادر الخير»، وبعدها «المطرقة»، تكرّس فنّاناً يسارياً. والمعروف أنّ عازف القانون سالم حسين هو من قدّمه إلى الوسط الفنيّ، بل منحه هذا الاسم الذي اشتهر به.
أبرز أغانيه التي ذاع صيتها، «موبدينه نودع عيون الحبايب»، «بعدك صغيرة»، و«على درب اليمرون»، و«عمي يا بيّاع الورد»، و«مشكورة»، و«يا عنيّد يا يابه»، و«يابو بلم عشاري»، و«ردتك تمر ضيف»، و«أنا ياطير»، و«حبينا ضي الكمر»، و«ياعشكنا».
وعلى رغم أنّ كثيرين توقعوا رحيله قبل هذا الوقت، إلا أنّ النبأ كان صادماً لمثقفي العراق وفنّانيه.
كتب الشاعر وسام هاشم: «كنّا ننتظر موته، ونحن نحدّق لصورته مريضاً في مستشفى لا تكفي لعلاج أوجاع الضرس! هكذا نحن، محبّتنا خجولة وكسولة وجبانة.
لم ينهض أحد منّا ليقول يا دولة النفط فؤاد سالم نفطنا». صديقه الملحن طالب غالي علّق من مكان إقامته في الدنمارك: «نحنُ الذين لم ننسَ الوطن لحظة واحدة. لكنّ الوطن أدار وجههُ عنا. وها أنت تموت غريباً عن وطن غنّيت لهُ وتغنّيت بهِ. آهٍ يا فؤاد. ما أصعب أن ننسى جُرحاً. ما أوجعَ أن نفقدَ خلاً. أفتقدك يا فؤاد». وعلى ما يبدو، فإنّ العراق يواصل كتابة قصيدته المأساوية، مرّة بالسير في طريق ملغومة من دون نهاية واضحة، وثانية بفقدان رموزه الواحد تلو الآخر داخل البلاد وخارجها. يا لقسوة هذا الوطن الشعريّ الذي لم يرحم من غنّى لأجله وكتب عنه الشعر أيضاً، فكيف ننسى ديوان سالم «للوطن للناس أغني»؟ عاد أبو حسن إلى بغداد من دمشق أمس، عودةً مغايرة، محمولاً فيها على الأكتاف، فمرّ ببغداد في طريق بعيد صوب مقبرة «وداي السلام» في النجف.



موت في المنفى

«لما رأيت السياب في هذه الحالة، مريضاً ورجله ضعيفة، بكيت، فهل يعقل لرجل عظيم مثله أن يصل به المرض إلى هذه الحالة». هذه الجملة قالها فؤاد سالم عندما زار الشاعر الراحل بدر شاكر السياب وهو مريضٌ في الكويت. لكنه لم يكن يعلم حينها، أنه سينضمّ إلى قافلة العراقيين الذين ماتو في المنفى هرباً من الحكم السياسي العراقي. وتضمّ قافلة المنفيين العراقيين هذه مجموعة من الفنانين والكتاب والشعراء أبرزهم بدر شاكر السياب، ومحمد مهدي الجواهري، وعبد الوهاب البياتي، وسركون بولص، وآدم حاتم، وبلند الحيدري، ومصطفى جمال الدين، والفنانة زينب، وعبد الستار ناصر، والتشكيلي رافع الناصري الذي رحل أخيراً.