قبيل وفاته، كان قائد الأوركسترا السوفياتي التاريخي يفغيني مرافينسكي (1903 – 1988) لا يزال يتمتع بكامل قواه العقلية والجسدية لأداء مهماته الموسيقية على رأس «أوركسترا لينيغراد الفلهارمونية». ربع قرن مضى على رحيل النسر السوفياتي، الذي ظلّ يقود الأوركسترا في سنواته الأخيرة، شامخاً مزيِّناً صدره بميدالية «جائزة لينين». في هذه الذكرى، نسترجع بعضاً من سيرته الشخصية ومسيرته الموسيقية، التي تُعدّ مِن الأهم في القرن العشرين عالمياً، والأهم من دون منازع على صعيد قيادة الأوركسترا في الاتحاد السوفياتي. ولد يفغيني مرافينسكي في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، لعائلة أرستقراطية تهوى الموسيقى. بدأ دراسة البيانو صغيراً. بعدها أراد الدخول إلى «كونسرفاتوار لينينغراد» فرسب. حاول من جديد، فنجح ودرس التأليف وقيادة الأوركسترا التي ستصبح مهنته، ويصبح رمزاً تاريخياً لها. تولى مطلع الثلاثينيات مهمات في «مسرح ماريينسكي» الشهير، فقاد الأوركسترا في عروض الباليه الروسية (تشايكوفسكي وغيره).
في عام 1938، عُيّن قائداً لـ «أوركسترا لينينغراد» التي يعود تأسيسها إلى 1882 واكتسبت اسمها الجديد مع تغيير اسم سان بطرسبورغ إلى لينينغراد إثر رحيل لينين عام 1924. هذه الأوركسترا كانت الأهم في روسيا من دون شك، لكن مرافينسكي جعلها الأهم في الاتحاد السوفياتي، وارتقى بها إلى مستوى أهم 5 أوركسترات في أوروبا والعالم. وإذا حصرنا الأمر في الريبرتوار الروسي (وبالأخص تشايكوفسكي وشوستاكوفيتش) تحتل المرتبة الأولى من دون منازع، برغم المنافسة الشديدة التي فرضتها أسماء أسطورية أمثال كارايان (على رأس «أوركسترا برلين»).
أمضى يفغيني مرافينسكي نصف قرن كامل (وهو رقم قياسي في تاريخ المهنة) على رأس «لينينغراد». نصف قرنٍ من الصرامة والقسوة والجدية والدقة. صفات كان يفهم ضرورتها أعضاء الأوركسترا كلما حصلوا على النتيجة الفنية العالية. «دقائق تأخير كانت تؤدي بعضو من الأوركسترا إلى الاستغناء عن خدماته لأسبوعيْن» يقول أحد أعضاء «لينينغراد». «عملت معه 50 سنة، لم يقل صباح الخير مرة واحدة» يستذكر آخر. «أسلوبه بسيط أثناء التمرين: إن أراد التوجّه إلى أحدنا وسمّاه بآلته (الكلارينت الأول مثلاً)، فهذا يعني أن المشكلة بسيطة. إن سماه بالاسم، فهذا يعني أن المصيبة حلّت!» يروي أحد عازفي الكلارينت في الأوركسترا. إنها السلطة المطلقة لمحاولة بلوغ الكمال في الموسيقى. مهمّة تبدو مستحيلة من دون ديكتاتورية. عندما يتعلق الأمر بضبط أكثر من مئة عازف بهدف تحقيق نتيجة صوتية واحدة، لا مكان للتهاون. كان مرافينسكي حاد الملامح. لا يبتسم أبداً ولا يحرك شفتيه أصلاً. نظرته ثاقبة. يده تبدو من فولاذ. هذا الرجل نفسه شوهد مرة يبكي في الكواليس قبيل بدء أمسية. والسبب: «هل ستتمكن الهورنات من الدخول معاً؟» (كان يعول كثيراً على دقة أداء هذه المجموعة من الآلات). نعم هكذا كان مرافينسكي. إن سمعتم كيف يقود تشايكوفسكي (السمفونيات 4، 5 و6) أو شوستاكوفيتش أو الريبرتوار الجرماني (شوبرت، بيتهوفن وبرامز) ستتفهمون دموعه بالتأكيد. عام 2003 صدر وثائقي بعنوان «مرافينسكي: الأرستقراطي الروسي وقائد الأوركسترا السوفياتي». طبعاً لم ينسَ منتجو الشريط مسألة امتعاض مرافينسكي من الشيوعية وستالين. تلك الأسطوانة الغربية التي لا تنتهي، لكن، في الواقع، إن كان لمرافينسكي ملاحظات على نظامه، فهل هذا أمر غير طبيعي؟ أليس لدى أكثر من نصف الأميركيين ملاحظات على النصف الآخر، أي الحاكم؟ والسؤال الأهم: لماذا لم يغادر روسيا الشيوعية، كما فعل كثيرون من مواطنيه؟ ثمة ملاحظة مهمة في هذا الوثائقي تشرح كل ما في الأمر: لقد كان مرافينسكي، المهووس بالكمال، يعيد التمارين إلى ما لا نهاية. كما كانت له السلطة المطلقة لإلغاء الحفلات، أحياناً «بسبب» الوصول إلى النتيجة المرجوة أثناء التمارين بحجّة أنّه يستحيل بلوغ الكمال مرتيْن! كل هذا أتيح له، ودائماً بحسب الوثائقي، لسبب وحيد هو عدم وجود داعم أو راع أو منتج يفرض سلطة مادية على الموسيقى. وحدها الدولة تتحمل هذا «الترف» المهني الفني، وأكثر منها الأنظمة الاشتراكية. كل سنة، تأتي شلّة من قدامى أعضاء الأوركسترا إلى قبر يفغيني مرافينسكي وتشرب نخبه. معهم، نرفع كأس فودكا عن روحه.