القاهرة | أمس، وصل إبراهيم عبد المجيد باكراً الى بيت إبراهيم أصلان في المقطم لتوديع جثمانه، فوجد سعيد الكفراوي ينتظره فتعانقا طويلاً ثم انخرطا في بكاء طويل. انتبه الكفراوي الى أنّه هو الذي ورّط أصلان في المجيء الى المقطم وترك امبابة. حكاية قطعها دخول الموسيقي العراقي نصير شمّة الى المشهد، ومعه الشاعر السوري محيي الدين اللاذقاني ليودعا «مالك الحزين». دقائق ثقيلة مرت قبل أن يتحول الشارع الى سرداق مفتوح ضم رفاق أصلان في سنواته الطويلة، التي لم تكن كلها قاسية، لأنّ بهجته منحت عمره المزاج الذي يليق بصاحب «خلوة الغبان».
هذا هو العنوان الذي اختاره لأحد أجمل كتبه، وبدا صوفياً أكثر مما تحتمل الكتابة، «لكن الحياة تحتمل طالما عشتها خالية من الآلام المنافسة وأحقادها»: هكذا قال مرةً وهو يسير في شوارع «غاردن سيتي» بحثاً عن سيارته الـ «فولس فاغن» القديمة التي رفض التخلي عنها، ثمّ تركها لابنه هشام، الذي فأجاه باحتراف الكتابة وهو يعبر سنواته الثلاثين.
جاء السينمائي مجدي أحمد علي الذي حوّل رواية «عصافير النيل» الى فيلم شجي. وكان قد بدأ العمل على تحويل عمله الأخير «حجرتان وصالة» الى مشروع سينمائي جديد، مع محمد الرفاعي. قاوم مجدي رغبته في البكاء ثم أمسك يد الروائي محمود الورداني، والناشر محمد هاشم، وظهر في اللقطة محمد المخزنجي، الذي يندر أن تراه في مشاهد مزدحمة مماثلة. فالكاتب الهامس رأى دوماً في أصلان ملاذاً وركناً لا يمكن تفاديه في أركان السرد المصري. قبل أن تخرج جنازة العم إبراهيم، ويوارى جسده في الثرى، أطلّ ناشر أعماله إبراهيم المعلم (الشروق)، ووقف الى جانب وزير الثقافة السابق عماد أبو غازي، الذي بكى طويلاً وهو يصلي على الجثمان. وقبل أن ينطلق المشيّعون الى مقابر الأسرة في باب النصر، الى جوار سور القاهرة الشمالي، وقريباً من حي الحسينية وباب الفتوح، نبّهنا عماد أبو غازي الى أنّ المقابر ذاتها ضمت رفات المؤرخ المصري المقريزي، قبل أن تنقل المحافظة الرفات الى وجهة مجهولة. وتبادل الجميع حكايات عن الراحل بدت كلّها كأنها «تمارين على الابتسام»، وإذا بالجميع يعودون إلى كتبه المؤجلة. قبل وفاته، كان يعمل على إعداد كتاب بهذا العنوان يضم المقالات التي كان يكتبها لصحيفة «الأهرام». كتب صاحب «وردية ليل» في «الأهرام» طوال ثماني سنوات، ناجحاً في إعادة الاعتبار إلى فن المقال الأدبي. هذا النوع تعرّض لإهمال متعمد، من وجهة نظره، بعد غياب يحيى حقي، الذي نظر إليه أصلان دوماً كـ «جبل شاهق» من جبال الكتابة.
عاش إبراهيم أصلان ومات مثل صياد ماهر لأكثر اللحظات الحميمية التي تستعصي على الكتابة، لكنها تلين بين يديه لتتحول إلى «حياة من لحم ودم». فالبشر هم السر الحقيقي في كل ما أنجزه أصلان، ودرسه الأهم والأكبر هو ألا نبتعد عن الحياة.