الفصل الأخير من مصرع: محمد العبدالله | سوف أتجرأ على المحاولة، لكنني لا أملك إلا القليل من الكلمات العادية في رحيل الشاعر والصديق غير العادي محمد العبدالله، ما يسمح لي فقط بملامسة حافة شعره الباهظ، حافة صداقته الغريبة، حافة حضوره المُضيء. وما كنتُ لأنقاد الى مثل هذا التبسيط لو كنت أكتب في فضاء أكبر، ووقت أطول، أو على الأقل، لو كان قد هاتفني قبل ليلة وأخبرني أنه يغيب غيابهُ النهائي هذه المرّة، على غرار ما كان يفعل على الهاتف في رغبته الى مناكدتي. لم أحضر حفل تكريمه أخيراً، فلم أشأ أن أراهُ يُزفُّ الى الموت، سوى أن رؤيته تسنّت لي منذ أسبوعين في مقهى الروضة، صحبة شعراء وأصدقاء يُحبونه. سلّمت ومشيت وقد أمتلأتُ يقيناً أنه سلامنا الأخير.
كّمٌ كبير من السنوات في كتابة الشعر المُتهكّم، والمتعالي إبداعاً وتأملاً، في قدرة الكلمات البسيطة وحدودها. فأن يكتب محمد العبدالله الشعر هو أن يُفكرّ فيه أيضاً، أن يُعالجهُ، أن يعيشهُ، أن تتناول قصيدته عناصرها الرئيسة من الحياة تحديداً، من الوجوه المليحة، من أكلاته المفضلة، من وحدته التي ما من بعدها وحدة، وغالباً ليس أقدر من العبدالله على مباغتة الأشياء والقارئ، في تلك الاقتحامات غير المتوقعة التي تتوافق مع مزاجه ووجوده، لمّا أن رغائبه وانفعالاته في القصيدة يُسخّرها لاستعادة العلاقة بين العاطفة وفق طبعها في التلقي، ووفق تعبيره هو عن هذا التلقي. والأمر هنا تواطؤ مضبوط، بينه وبين شخصية قصيدته وبين القارئ على السواء.
أنا التي أغرمتُ بـ«بعد ظهر نبيذ أحمر» وفي كل ما كتب، وفي الذي كتبه حتى في حالات هرجه ولعبه، تعلمتُ منه كيف تتلمس القصيدة تقاطيع وجه الحب، وجه الزهرة التي تنبت في الصخر، وجه الليل والفجل الأحمر والدعوة المكشوفة التي حمّلها قصائده. لم يُحمّلنا همهُ يوماً، بقي العبدالله عصيّاً على النواح ووضعنا في الزاوية لنكون نحن (القرّاء) الضحايا، وهو السيّد والناجي الوحيد.
كتب العبدالله بروح الهزء التي لم تصالح ذُل المحبين. أبداً ما مات، لكنه المسافر يقطع الطريق من بيروت الى مكان لم يُفصح عنه، حتى لا تتكلّس الكلمة في مكانها، الكلمة في أحادية البقاء... سافر حتى لا يذبل فعل الشعر، وحتى لا يتعفن حبيبه الشعر شأن العفن اليوم الآخذ بكل شيء.
عمل محمد العبدالله على الطريقة التي يعمل بها الحدس الشعري، فأرخى لقصيدته عنانها، ورطّب لغته الفخمة والحلوة حتى قاربت العامية، ما منح القارئ سعادة قراءة نكهتين كبيرتين في قصيدة واحدة. نكهتان في قصيدته أوجدهما لكي تتفاهما، فلا يُصارعُ المتلقي بعد ولا يجهد الى قصيدة غامضة تعصى عليه.
أقرن العبدالله الشعر بالمعيش وابتعد عن الأيديولوجيا قاصراً ملامساته على لب الجمال فحسب، فكان الشعر عنده الوسيلة الوحيدة للصراع ضد الكليشيهات في خرق جذاب للمفاهيم الجامدة، وفي انشغاله بقصائد تُنجز هذا الافتراق وتُعيد فتح العلاقة بالناس وبالحب على طريقته طبعاً وبحالة الشعر اليومي إن صحّ التعبير، أي الحضور الواضح لما يُنشدهُ الشاعر في قصيدته.
أحبّ محمد العبدالله اللعب بالكلمات وأجاد هذا الفن في سخاء روحي، فأتى قصائد على شكل استجوابات للمحبوب، وللآخرين... ومحمد في الحقيقة كان يستجوب نفسه.