في بلدة تونسية صغيرة تدعى سيدي بوزيد، أضرم شاب فقير النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة رجال أمن عربةً كان يبيع عليها الخضار. كان اسم الشاب محمد البوعزيزي، وكان ذلك في السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2010. يومها، سقط حاجز الخوف عند الشعوب العربية، وبدأت لعبة الشطرنج وإسقاط الديكتاتوريات الحاكمة منذ عقود طويلة. لكن مع انتهاء عام 2011، بدأت تصدر تقارير دولية تخبرنا عن الجانب الآخر من الثورات، ذلك المتعلّق بالحريات الشخصية والإعلامية. البداية كانت مع التقرير الصادر عن «منظمة العفو الدولية» الذي تطرّق إلى استمرار عمليات القمع للمواطنين في عدد من الدول التي شهدت ثورات. ثمّ جاء تقرير «مراسلون بلا حدود» ليضيء على الواقع الإعلامي في الدول العربية. هنا، أشار التقرير إلى هامش الحريات الأوسع الذي شهدته الدول الثائرة، لكنّها أضاءت على «الثمن الباهظ الذي دفعه الصحافيون، وخصوصاً المصوّرين خلال أدائهم واجبهم».
وشمل التقرير كلاً من: تونس، مصر، ليبيا، البحرين، سوريا واليمن، وتخلله رصد لانتهاكات تعرّض لها الصحافيون هذا العام، مع مقارنة بالأرقام، بين عدد الصحافيين المقتولين والمعتقلين والمحاكمين قبل الثورة وبعدها. طبعاً يبدو انخفاض أعداد هؤلاء متوقّعاً ومنطقياً في ظلّ تغيير الأنظمة في بعض الدول، ومحاولة حكومات أخرى الالتفاف على الثورات من خلال بعض الإصلاحات (الشكلية في أغلب الأحيان).
لكن هذه الحرية المستجدّة في منطقتنا قابلها ظهور قمع من نوع آخر تزامن مع بروز مجموعة من التابوهات والمحرّمات الاجتماعية التي أدّت إلى تضييق الخناق مرة أخرى على وسائل الإعلام وفق التقارير الحقوقية والإعلامية الصادرة أخيراً . في تونس، شاهدنا ظهور رقيب ديني ـــــ أخلاقي على أداء الصحف والتلفزيونات. هكذا تعرّض المدير العام لقناة «نسمة» نبيل القروي للتهديد بالقتل، وحرق منزله، من قبل مجموعة من الإسلاميين الغاضبين بعد عرض المحطة لفيلم التحريك «برسيبوليس». وكان قد سبق ذلك حادثة أخرى في أيار (مايو) مع حجب عدد من المواقع الإباحية، بقرار قضائي! إذ لم تكد تونس تتخلّص من رقيبها السياسي والأمني الذي خنقها طوال فترة حكم زين العابدين بن علي، حتى عاد الرقيب الجديد. وهو ما يبدو طبيعياً، إذ إن «أغلب مناصري بن علي تحوّلوا إلى دعاة للإصلاح والديموقراطية بعد سقوط النظام» كما جاء في تقرير «مراسلون بلا حدود».
وكما في تونس كذلك في مصر، سقط حسني مبارك، وبقي فلول نظامه، ومجلسه العسكري، يديرون البلاد «مستعملين أسلوب الرقابة نفسه الذي كان يستعمله مبارك ...». جاء في التقرير الذي ذهب في فقرة أخرى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن «المجلس لم يكتف باستعمال وسائل النظام السابق، بل جعلها أشد قساوة»، ومضيئاً على محاكمة عدد من المدونين الذين انتقدوا المجلس أمام المحكمة العسكرية.
عاد الإعلام إذاً ليدفع ثمن تغيير الأنظمة، بعدما كان الضحية الأبرز للاحتجاجات الشعبية. هذا الواقع نفسه ينطبق على ليبيا التي بقي إعلامها طوال عقود طويلة من حكم معمر القذافي معزولاً عن العالم العربي والغربي. لكن مع اندلاع الثورة، بدأت تصل أخبار التظاهرات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ثم تدخّل الـ«ناتو»، وبدء قصف المدن الليبية ووسائل الإعلام الموالية للقذافي ... إلى أن قتل الزعيم الليبي السابق، وتسلّم المجلس الوطني الانتقالي الحكم. وإن كان المشهد الإعلامي حتى الساعة لم يتّضح بعد، فإن ليبيا شهدت طفرة إعلامية كبيرة أدّت إلى ظهور أكثر من 130 مطبوعة، وعشرات القنوات المرئية والمسموعة ... وهنا أيضاً تتخوّف المنظمات الحقوقية من فرض رقابة دينية وسياسية على المضمون، وخصوصاً أثناء تغطية الانتخابات المزمع إجراؤها هذا العام. وإن كانت الأنظمة في تونس ومصر وليبيا قد سقطت، فإن الوضع في سوريا والبحرين يبدو مختلفاً. في المملكة الخليجية الصغيرة، عمد النظام الى قمع المحتجّين على نحو دموي، في ظل صمت إعلامي مخيف. أما في سوريا فيبدو أن طريق الثورة لا يزال شاقاً وصعباً، وهو ما ينطبق أيضاً على مصير وسائل الإعلام. وفق تقرير «مراسلون بلا حدود»، اعتقل النظام منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) الماضي 84 صحافياً مقابل الاعتداء وتوقيف أكثر من 31 مدوّناً ... في ظلّ رقابة مشدّدة على وسائل الإعلام الممنوعة من الدخول إلى المدن التي تشهد أعمال عنف. ورغم دخول فرق المراقبين العرب إلى سوريا، فإن الرقابة والتضييق على الصحافيين استمرّا.رغم كل ما سبق، يبدو أنّ الإحباط لم يتسلّل بعد إلى المواطنين العرب، وهو ما أكّدته «منظمة الفعو الدولية»: «ما يمدّنا بالأمل في أن تكون 2012 سنة خير لحقوق الإنسان، هو رفض الناس العاديين في مختلف أرجاء المنطقة لأن يرتدعوا، رغم القمع، عن نضالهم من أجل الكرامة والعدالة».



ذعر من النيو ميديا

عند النظر إلى كل التقارير الصادرة عن المشهد الإعلامي العربي لعام 2011، يبدو منطقياً التركيز على الإعلام الجديد New media الذي كان المحرّك الرئيسي للثورات. لكن يبرز ايضاً تخوّف من المنظمات التي تعنى بحقوق الصحافيين من عمليات الحجب المستمرة في بعض الدول «المستقرّة» حتى الساعة، كالسعودية، والأردن، والجزائر ... ويبدو أنّ هذه الدول تحاول تفادي انتقال حمى الثورات إليها. وفي الوقت نفسه، يوثّق تقرير «مراسلون بلا حدود» الحروب التي خاضتها الأنظمة الساقطة لمنع الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي.