كما في مجموعتيه السابقتين «كأن حزننا خبز» (2000)، و«الكاميرا لا تلتقط العصافير» (2004)، يعرّض مازن معروف الشعر لمزاجٍ تختلط فيه الجدية باللعب. في مجموعته الجديدة «ملاك على حبل غسيل» (الريس)، لا تزال الكتابة مسألة شخصية بالتوازي مع كونها طموحاً لإنجاز قصيدة أكثر نضجاً. النضج هو محاولة إقناع القارئ بأنّ هناك آلاماً وندوباً تتحصّل من اللعب أيضاً، بينما الشعرية ليست سوى أن تكون النبرة معاصرة ومنتمية إلى زمنها وقاموسها الشاب. هكذا، تصبح السيرة اليومية مكوناً جوهرياً للكتابة، وتحضر الفكرة العادية إلى جانب الفكرة المدهشة طالما أنّ القصيدة هي تأويلاتٌ سريعة لهذه الأفكار. يكتب الشاعر الفلسطيني قصائده بمعجم يومي، مستثمراً التفاصيل المهملة ومشهديات الواقع والاستيهامات الذاتية. لا تذهب القصيدة أبعد من ذلك، لكنّ صاحبها يثق بقدرة هذه العناصر على ترجمة مزاجه الذي قد يكتفي بفكرة لاهية

مثل «لو كانت إصبعي/ ممحاة/ لأودعتُ العالم/ مكاناً آخر/ بحجة/ أنني ألعب الغمّيضة»، أو يلهو بفكرة أكثر تعقيداً مثل «قلم الرصاص/ يحيا وهو يستفرغ أحشاءه على الورقة/ هو مثلنا/ غير مقتنع بوظيفته/ لذلك/ توقهُ الدائم للوصول إلى الممحاة/ في الطرف الآخر». لا نجد في هذه الفكرة تأملاً وصفاءً يُطيلان أمد التأثير الشعري، ويكثّفانه في داخلها. إنّها كتابة تتأمل نفسها بسرعة قبل أن تصل إلى القارئ ... لكنّ الشاعر نفسه لا يريد أكثر من مباغتتنا بأفكار مماثلة. التأمل السريع يتجاور مع مزاجٍ غاضب لا يتوقّف عن تحويل الأفكار إلى قصائد، تكشف عن سوء تفاهم أنطولوجي مع العالم: «سئمتُ اللون الأزرق/ أمدّ إظفري/ وأقشر السماء/ بعنف»، يقول الشاعر في قصيدة «سأم»، ويخترع استعارة مبتكرة في قصيدة «تعارف»: «حين يرتطم الهواء/ بزجاج النوافذ/ ويرتدّ معكوساً/ إلى الوراء/ فإنّه بذلك/ يحاول أن يشمّ نفسه». المزاج نفسه حاضر في قصائد أطول، لكنها خاضعة لضبطٍ أسلوبي مشابه. لا تغيب الأنا الضجرة والمعطوبة عن المجموعة، فنقرأ: «ذاكرتي كيس خيش مستعمل/ ينقّط ملائكة/ جمعتهم في السابق»، و«نظارتي/ حيوانٌ يقودني/ إلى تقاطعٍ هادئ/ في رأس امرأة»، و«نهاري أصفر/ كأسنان حشاش»، ولذلك «سأخلعُ شفتيّ/ ذات يوم/ وآكلهما كتحلية/ سأخلع قفصي الصدري/ ذات يوم/ لأنني لستُ ميتماً/ لتجميع الملائكة/ وذات يوم/ سأخلع الباب/ وأقف مكانه/ لأمنع نفسي من الخروج/ إلى حفرة العالم».
ثمّة سريالية خفيفة، وممارسات كولاجية محببة يحرص الشاعر على توصيل الدهشة المدسوسة فيها إلى القارئ، كأن يكتب «رغبة» مقلوبة مثل: «أمشي/ لا لأمشي/ بل لأحقق رغبة ظلي/ بأن أرافقه/ وهو يتنزّه»، أو يُبطئ بثّه السريع للأفكار والصور، ليكتب قصيدة «أسطوانة» التي يتحرك معناها فوق أحشاء أكثر عمقاً وتأملاً: «لا نعرف من أين يأتي كل هذا الذباب/ وماذا يفعل فوق هؤلاء الموتى/ لكن كل ذبابة/ تتحرك بطريقة مختلفة عن الأخرى/ لأن المطلوب منها/ عزفُ نوتةٍ ما/ أوقية ذباب/ تستطيع أداء أغنية روك في مستودع/ أو فوق جانب من البحيرة/ إنها ربما أغنية/ تدرّب الذباب طويلاً عليها/ لغسل الميت من الكراهية التي يحاول نقلها الآن/ متنكراً بهيئة جثة نافقة/ إلى الطبيعة».