دمشق | تأخّر نزيه أبو عفش في تثبيت موقفه حبراً رغم أنّ موقفه استُشِفّ منذ بداية الأحداث في سوريا من خلال جمل افتراضية مكثّفة كتبها على حائطه على الفايسبوك، ومواقف عدّة رفض فيها أن يتحوّل إلى دميةٍ بخيوط، يمنحها مَن يرغب، تذكرة طيران بإقامة خمس نجوم كي تطير «باسم الثورة» إلى احد البلدان المحتضنة لـ«ربيع العرب» وتصير صوت الثورة الداخلية من الخارج. (راجع حوار سامر محمد اسماعيل مع الكاتب بعنوان «نزيه أبو عفش: يخاف هذه المعارضة، النظام السوري ظلمه ومنعه من الكتابة لكنه لم يخفه»، ملحق «السفير» الثقافي، عدد 6 ك2/ يناير 2012).
قبل هذا وذاك، كان نزيه «يتحسّس قلبه» حين كان أحد الذين انقضّوا عليه اليوم، يقول له: «أحبّك»، و«يشتمّ في ندائه العطوف طلاوة السمّ في اللقمة» إذا ما ناداه بكلمة «أخي»، لأنّه أدرك أنّ خلف هذا الكلام المعسول، تقبع غريزة الوحش في الانقضاض. وإذا بالذي كان يبدو حبّاً، ينقلب رصاصاً هستيريّاً يندفع من الأفواه ليخترق كلّ زاوية في الرّوح.
«زيادة يحاور من واشنطن، والنظام يحاور من دمشق» يقول أبو عفش، و«بين هذا وذاك ثمّة شعبٌ بحجم الشعب»، شعبٌ لم يعنِه يوماً أن يتحالف مع أحد ضدّ أحد من أجل أن يصل إلى سلطة، أو أن يوصل أحداً إلى السلطة، لكنّه وجد نفسه فجأة أمام مَن يريد أن يرغمه على التحالف مع الشيطان من غير حتّى أن يكلّف نفسه عناء محاورته لإقناعه.
شرائح عدة من الشعب السوري لم تهمّها السياسة يوماً، نتيجة عقود طويلة من تغييب العمل السياسي، فاكتفت بمراقبة ما يحدث بعين الأسى والخوف، لكن بعين من يعنيه بلده حقّاً، من دون أن يكون لديه مصلحة في تأييد أي طرف سوى وطنه. فيما يصرّ كثيرون على إبقاء زاوية الشعب «القابع في بيته ضجراً وخائفاً» معتمةً، يسلّط أبو عفش الضوء عليها، وإذا به يواجه بهجوم عنيف لأنّه قال نيابة عن كثيرين: «أنا هذا الشعب الخائف».
ولا شكّ في أنّ كلام أبو عفش المتعلّق بالإصلاحات التي يزعم أنّها لم تُمنَح الوقت الكافي للتحقّق، يسوّغ استفزاز بعض المعارضين الذين رفضوا منذ البداية تصديق هذه الخطوة، معتبرين إياها مجرد تسويف. لكن ألم يكن من الأجدى بهم ـــ لا سيما بالمثقفين الذين يعلمون مواقفه السابقة ـــ أن يكونوا أخف حدّة في التعاطي مع هذا التفصيل من حديثه، وغيره من التفاصيل الخلافية بينه وبينهم، مثل كلامه عن رفض الحوار اللاعقلاني وتساؤله عن المكان الذي سيقصده إذا رحل النظام وخوفه من المعارضة؟ أليسوا هم الذين يُنتظَر منهم أن يكونوا في الصفوف الأولى لتوجيه المجتمع، كي يكون قادراً على احتواء وجهات النظر المتعدّدة بعيداً عن التشنج والإقصائية؟
لم يكتف نزيه بالمساواة بين القتيل والقتيل، بل أضاف ما اعتبر أنه لن يرضيهم، وساوى «بين القاتل والقاتل»، وهي موضوعية مفتقدة في الطرفين، الأمر الذي فتح عليه علبة باندورا من قبل المثقفين. لكنّ مسلك العبث الذي سلكه منذ عقود جعله «يعرف كيف يرتّب خسائره»، ولا ينتظر من تلك العلبة أن تجود عليه بما تحمل من أمل بعدما أفرغت محتوياتها.