باريس | مثّلت «الموجة الجديدة» منعطفاً في تاريخ السينما. نقلت الفن السابع من البنى التقليدية التي كانت مهيمنة لغاية أواخر الخمسينيات، إلى آفاق رحبة من الحرية والتنوع والتجريب. نشأت هذه الموجة في خضم التوجه التحرّري العام الذي ساد العالم في هذه المرحلة، مع بروز حركات التحرر في العالم الثالث، وحركات النسوية ومناهضة الدور الاستعماري لفرنسا من قبل نخبها ومثقفيها من الجزائر إلى فيتنام.
اليوم، تستعيد بيروت تلك الصفحات التأسيسيّة المضيئة من تاريخ أوروبا الثقافي والسياسي والإبداعي، من خلال تظاهرة بعنوان «وقت للحياة: ثمانية من طليعيّي الموجة الجديدة» التي تقدّمها جمعية «متروبوليس» بالتعاون مع «المركز الفرنسي في لبنان» في «متروبوليس أمبير صوفيل»، ابتداءً من 19 يناير الجاري (راجع المقال المقابل).
صبّت جهود رواد الموجة الجديدة، من فرنسوا تروفو وجان لوك غودار إلى جاك ريفيت وكلود شابرول، مروراً بإيريك رومير وأنياس فاردا في السعي إلى «تثوير السينما». تُرجم ذلك بكسر الأشكال الفنية والرؤى الإخراجية الكلاسيكية عبر إسقاط السيناريو التقليدي، وتغييب الحبكة الحكائية ذات المحنى الخطي، لحساب الارتجال والتجريب. وبذلك، أرادوا الاستعاضة عن اللغة السردية بلغة بصرية أكثر قدرة على الإمساك باللحظة الراهنة في عفويتها وصدقيتها وتوترها.
ولم تقتصر تأثيرات الموجة الجديدة على تثوير البنى الإخراجية والتقنيات والرموز السينمائية فحسب، بل أحدثت أيضاً تحولات جذرية في اختيار المضامين وأساليب المقاربة التي اتّسمت بالشخصنة والفردانية وتغليب الانشغالات الحميمية على الهمّ العام. غابت مع هؤلاء السينمائيين الجدد صورة «البطل» «صانع الخوارق»، لحساب شخوص إشكالية قلقة وتائهة، ما أدى إلى كسر هالة «البطل» الرومانسي، بعيداً عن النمط الهوليوودي والاتجاهات السياسيّة المختلفة، ليحتل الشاشة صنف جديد من «الأبطال العاديين» ـــ وفق تعبير غودار ـــ الباحثين عن «مكان تحت الشمس».
لكن الميلاد الحقيقي لـ«الموجة الجديدة» بوصفها توجهاً سينمائياً مؤهلاً لأن تكون له امتدادات وتأثيرات عالمية، بدأ فعلياً مع دورة «مهرجان كان» 1959. في تلك السنة، تمكن ثلاثة مخرجين قادمين من عالم النقد (مجلة «دفاتر السينما» Cahiers du Cinema) من مزاحمة عمالقة الفن السابع. هكذا، حاز تروفو جائزة أفضل إخراج عن رائعته Les 400 coups (طيش الشباب)، أما غودار فأبهر الكروازيت بفيلمه ذي المنحى الراديكالي A bout de souffle الذي يصنّف اليوم بالعمل المرجعي المؤسس للموجة الجديدة. واكتمل المشهد بفيلم «أولاد العم» لشابرول الذي ظل محافظاً على بصمة ميّزته عن رفاقه وحملت تأثيرات من الفن السريالي ومسرح العبث.
ولعلّ تولّي المثقف البارز أندريه مالرو منصب وزارة الثقافة في الحكومة الديغولية، بدءاً من صيف 1958، أدى دوراً في دعم السينمائيين الجدد. تفطن صاحب «الشرط الإنساني» باكراً إلى حجم «الانقلاب الفني» الذي قد يمثّله اقتحام شلة «دفاتر السينما» مجال الإخراج، وتنبّأ بأنّ إقدام هؤلاء النقاد الطليعيين على الوقوف وراء الكاميرا، سيكون له وقع القنبلة في زعزعة الاستبلشمنت السينمائي وخلخلة اليقينيات التقليدية، بما يؤسس لـ«سينما مُفكِّرة». وقد استعاد غودار مصطلح «السينما المُفكِّرة» بعد ربع قرن، معتبراً أنّه الأدق في توصيف سينماه. وبذلك، عبّر الأب الروحي لـ«الموجة الجديدة» عن أنّ «الثورة» التي أحدثتها الموجة الجديدة يجب أن تتّسم دوماً بـ«روح سيزيفية» قادرة على قلب الطاولة وإعادة البناء من الصفر مع كل فيلم!
بذلك رفض «العرّاب» غودار أن تكرّس «الموجة الجديدة» أنماطاً جاهزة تتحول إلى يقينيات دوغمائية تحل مكان اليقينيات الكلاسيكية التي أطاحتها. وقد برهن صاحب «بيارو المجنون» عن قدرة فائقة على التجديد والتطور. من أعماله الملتزمة الراديكالية في الخمسينيات والستينيات، انتقل إلى التجريب والفيديو في السبعينيات، ثم الكولاج الشعري في التسعينيات، وأعلن أخيراً أنه يفكّر في أسلوب مغاير لتوظيف تقنيات الأبعاد الثلاثة. لعل هذه الرؤية الطليعية والقدرة على التطور الدائم لمسايرة روح العصر، هي التي تفسر استمرار حضور الموجة الجديدة رغم مرور أكثر من نصف قرن على ميلادها.



نزعة وجودية

ارتبطت نشأة الموجة الجديدة بالنزعة الوجودية التي برزت بقوة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أنّ أول مَن استعمل مصطلح «الموجة الجديدة» في توصيف أعمال السينمائيين الجدد في فرنسا الخمسينيات كانت الكاتبة والمناضلة النسائية فرنسواز جيرو.
واندرج ذلك ضمن سلسلة من التحقيقات السوسيولوجية التي نشرتها في «الإكسبرس»، في تشرين الأول (أكتوبر) 1957، وخصّصتها لرصد مختلف الظواهر الاجتماعية والفنية الجديدة في موطن كامو
وسارتر.