بعد تقديم حفلات عدّة على «مسرح بيار أبو خاطر» (الجامعة اليسوعية)، تحطّ «الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية» رحالها مساء بعد غد الخميس على خشبة «مسرح الكلّية الشرقية» في زحلة (البقاع)، ضمن جولة مرتقبة لها على المناطق اللبنانية. تنمّ هذه الخطوة عن انفتاح الأوركسترا أخيراً على رؤية مغايرة وأكثر نضجاً من السابق. يؤدّي قائدا الأوركسترا أنطوان فرح وأندريه الحاج دوراً مهمّاً في بلورة هوية الأوركسترا ووظيفتها الجديدتين، بعد رحيل وليد غلمية، رغم الفارق بين أسلوبيْهما في القيادة وخياراتهما التي تكتنف اتّجاهين متوازيين.
يميل فرح إلى الحفاظ نوعاً ما على الخطّ الذي رسمه غلمية للأوركسترا، ويكتفي حاليّاً ببعض التعديلات والإضافات، فيما يسعى الحاج إلى المزاوجة بين التقليديّ والمعاصر والتدوين والارتجال. ولعلّ أهمّ ما يحاول الحاج تحقيقه، هو ردم الهوّة بين الأوركسترا والجمهور العريض من خلال إعطائها طابعاً شعبياً لا يغفل هواجس وتطلّعات النخبة. هكذا، يعيد الاعتبار إلى الريبرتوار الطربي الكلاسيكي والحديث، ويجمع بين المحلّي والعربي، معيداً إلى الواجهة قوالب عزفية ومقطوعات قيّمة لمؤلّفين أقصاهم الكونسرفاتوار («فالس الطفولة» لمرسيل خليفة/ حفلة 17 تشرين الثاني/ نوفمبر). نسج الحاج علاقة من نوع آخر مع جمهور لم يعد يمثّل مجموعة متلقّين محايدين؛ بل عنصراً ضرورياً لإنجاح الأوركسترا. أمّا الأهمّ من كلّ ذلك، فهو اجتهاد الحاج في «تحرير» الأوركسترا وحضِّها على إيجاد «صوتها» الخاص، بعدما كانت متقيّدة بنهج (أكاديمي) قاطع وجاف عوّق تطوّرها، وحصرها بالسماعيات واللونغات والبشارف. أعمال أدّتها الأوركسترا سابقاً بانضباط شديد وفتور، مردّهما إلى عدم مراعاة خصوصيات الروح الشرقية، إضافة إلى ضعف القيادة والبرمجة، ونمطية التوزيع الموسيقي عموماً.
كلّ هذا على أهمّيته، لا يعني أنّ وضع الأوركسترا مثالي اليوم، إذ يحتاج تطوّرها إلى مزيد من الحركة، والتراكمات في التجربة. أكثر ما يشدّ الانتباه أخيراً، هو التفات الأوركسترا إلى «التراث الحديث»، وروّاد الأغنية اللبنانية، وأبرزهم وديع الصافي، إضافةً إلى تشجيع المؤلّفين والملحّنين الشباب من خلال تأدية أعمالهم، ما يمثّل استكمالاً لما بدأه وليد غلمية. الحفلة التي تقدّمها الأوركسترا في زحلة بقيادة أندريه الحاج ستكون إذاً مؤطرة على نحو مشابه، إضافة إلى مقطوعة «ذكرى» (إياد كنعان)، و«أمل» (علاء عزام)، و«متل القمر» (أندريه الحاج)، و«بعلبك» (وليد أبو سرحال)، و«المناديل» (وليد غلمية)، ستؤدّي الأوركسترا «لونغا نوا أثر» (جيلبير يمّين)، و«درب الصيادي» (أنطوان فرح)، و«أمّي يا ملاكي» (الأخوان رحباني)، التي تأتي بمثابة تحية خاصة إلى سعيد عقل... أمّا المحطّات الغنائية التي تمثّل العنصر الأكثر شعبية في البرنامج، فتؤدّيها غادة غانم، بأسلوب يختلط فيه الأوبرالي والحداثي والشرقي. «إمتى حَ تعرف» و«قلبي دليلي» (الأغنيتان من ألحان محمّد القصبجي)، ستزيدان حتماً من حماسة هذا اللقاء، وخصوصاً أنّ غانم تبرع بتأدية أغنيات أسمهان وليلى مراد. المايسترو الذي يستعدلتقديم هذه الحفلة بمزيج من الشغف والجدّية، يتوق «إلى إحياء حفلات مع الأوركسترا في الخارج، وتحديداً في أوروبا، لتعريف الأوروبيين الذين يقدّرون موسيقانا بتراثنا ونتاجنا الحديث». الموسيقى ــ في نظر الحاج ـــ هي قبل كلّ شيء نافذة مفتوحة على الآخر. تلك هي تحديداً الرؤية التي كانت تفتقر إليها الأوركسترا.



5:00 مساء بعد غد الخميس 19 الحالي ـــ «الكلية الشرقيّة» (زحلة/ البقاع) ــ للاستعلام: 03/852459