في الطبقة الرابعة من أحد مباني منطقة رأس النبع في بيروت، يقدم حسين نخّال (1989) في شقة سكنية عرضاً (تجهيز تفاعليّ) بعنوان «غثيان». ليست تلك الشقة سوى بيت المسرحيّة يارا ابو حيدر التي حولت منزلها إلى ما صار يعرف بـ «مسرح البيت» بإدارة مشتركة مع المسرحيّ التونسي وحيد العجمي. «إنه بيت ومكان يوميّ تحول إلى مساحة استثنائية للممثل، وفضاء مخبريّ للأداء المسرحي»، هكذا تقدّمه يارا ووحيد. وفي هذا المكان، إختار حسين نخّال (خريج قسم المسرح/ معهد الفنون الجميلة) تقديم عرضه التفاعليّ الأول. إنّها مراحل مقسمة على مساحات البيت تعبرها ضمن تجهيز فنيّ يطغى عليه استخدام النايلون الشفاف الذي يكاد يغلف الفضاء بأكمله. تجتازها مع مجموعة صغيرة من عشرة أشخاص/ مشاهدين. خلال مدة العرض، تتوزع على هؤلاء مهام سُجِّلت على أوراق من النايلون، تقودهم ويقودون عبرها زملاءهم إلى أن تصل إلى الفضاء الأخير. هنا غرفة شيدت جدرانها من النايلون. تدخلها، كالعائد إلى رحم الأم. نخال ببذلته السوداء المرافق للمجموعة منذ بداية العرض، يتوسطها للمرة الأولى، ويثبّت تجميد الزمن الافتراضيّ. ثم يبدأ بتوزيع بلورات على المشاهدين/ المشاركين في العرض. بلورات تحوي أعضاء كائنات حيّة مربوطة بخيط شفاف ورفيع بأحد أعضاء جسده. هو رحم يغلق على جميع من فيه، يربطهم ببعضهم ليتحولوا إلى جسد واحد. إنه الفضاء الذي يحوي الحياة والموت في آن. يعيدك إلى الإحساس العضوي، إلى أصغر الجزئيات المرتبطة بالكون الأوسع. هكذا تدور الكواكب حول بعضها مولدة طاقة تخلق الحياة كما العدم. يستعيد حسين البلورات، شاكراً جمهوره على مشاركته المسار، وينهي العرض تاركاً لكل المشاركين المجال الواسع لإختبار وتحليل تجربته في نصف ساعة من «الغثيان» التي اقترحها عليهم. أما هو، فمن ألم خاص ينطلق إلى تلك اللغة الفنيّة. إنّها ترجمته لمشوار مع الموت، مع لحظة العدم، حين تفرّغ اللحظات من معناها، حين تختصر الأحاسيس بالغثيان.
أمام هذه الحالة، غالباً ما نتوه من كثرة الحاجة إلى التعبير عن ألمنا. نوزعه على مساحات البيت، ونحاول إعطاءه أشكالاً متعددة، وأصواتاً بغية احاطته من جميع النواحي. أما تجلي الألم الحقيقي، فلا يكمن إلا في لحظة المجابهة الأخيرة، وفي الصمت. في «الغثيان»، تشعر بأن لا جدوى من المراحل التحضيريّة لتلك اللحظة، فآنيتها أقوى من التفاصيل التي تسبقها.
في إحدى اللحظات الأخيرة قبل تسليم الروح، يتخلى نخّال عن أوجه الألم الرمزيّة والباردة، ويتوجه إلى أحد المشاركين في العرض. يقترب منه إلى درجة الالتصاق، يلتحم بجسده. ثم يقرّب شفتيه من أذنيه ويهمس فيهما كلمات حقيقيّة. يخبره عن الألم والغثيان، ليبقى الكلام سراً على جميع الحاضرين الذين يتحولون بدورهم إلى شهود على انكسار الصمت، عبر كلمات لم يسمعوها. إنّها اللحظة الأقوى في العرض، حين تجد نفسك داخل الدائرة الصغرى لأسرار الغثيان أو خارجها. الدائرة لا تتسع للجميع. لكنها أيضاً دائرة الحياة والعدم، دائرة «أوديبيّة» تأتيك بالمعرفة كما بإمكانها أن تفقدك البصيرة، أو السمع.
«مسرح البيت» الذي يستقبل عروض «غثيان»، احتضن سابقاً بروفات عروض مسرحية «ينعاد عليك». في زمن تقفل فيه المسارح في بيروت، يؤمن «مسرح البيت» فضاءً بديلاً لتقديم أعمال ذات توجه وخطاب مختلف عن السائد في هيكلية الحائط الرابع الذي يفصل الممثل عن الجمهور. لعله أيضاً يبدأ رويداً باستقطاب جمهور جديد إلى الأعمال المسرحية في منطقة رأس النبع.



غثيان: 8:30 مساء ــــ حتى 22 ك2 (يناير) الحالي ـــ «مسرح البيت» (رأس النبع، آخر شارع محمد الحوت، بيروت) ـــ للاستعلام: 71/792692