إنّه سؤال العنصرية مجدداً! هذا ما يوحي به للوهلة الأولى ملصق الفيلم الفرنسي «غير قابل للمس». وجهان يحتلّان كامل مساحة الملصق: واحد لشاب أسود (عمر سي) مبتسماً، وإلى جواره في وضعية الجلوس رجل أبيض (فرانسوا كلوزيه) مع الابتسامة ذاتها، فيما الاثنان ينظران إلينا. ما يدفعنا إلى التساؤل: هل خرج قرابة 20 مليون فرنسي تقريباً ـــ هم عدد من شاهد الشريط حتى اليوم ـــ كي يغوصوا في نقاش مستحدث حول العنصرية، محاولين نسيان أزمة بلادهم الاقتصادية الخانقة؟ سؤال مشروع على اعتبار أنّ ملصق أي فيلم يمثّل العتبة الأولى والمدخل الافتتاحي إليه.
ليس هذا فقط. يَفتح الشريط الذي أخرجه الفرنسيان أوليفييه نقاش وإيريك توليدانو، على مشهد متوتّر، حيث يقود الشاب الأسود إدريس، سيارةً حديثة، بسرعة جنونية وإلى جواره فيليب، ذاك الرجل الأبيض. توقفهما دورية للشرطة، ليتكرر المشهد المعتاد في السينما الغربية: شاب أسود في قبضة رجال شرطة بيض: «أخرج يديك من جيبك واتركهما في وضع مرئي، استدر إلى الخلف»، لكن يبدو أننا كنّا نحتاج إلى التوغّل أكثر في أحداث الشريط، كي نكتشف أنّ فكرتنا المسبقة كانت خاطئة، وأننا أمام قصة ذات نفَس إنساني مؤثر. فيليب، الرجل الثري والمصاب بشلل كلي، بعد تعرضه لحادثة سقوط أثناء ممارسته هواية الطيران المظلّي، يبحث عن مساعد شخصي له. يتقدّم شبابٌ كثر لشغل الوظيفة، لكنّ فيليب يقع على إدريس الخارج من السجن حيث كان يقبع بتهمة السرقة. نكتشف لاحقاً أن اختيار الرجل لمساعده الشخصي، لم يكن مدفوعاً برغبته في إبداء أي تعاطف فوقي مع السود. هو في حالة لا تسمح له بممارسة ذلك الترف. لقد اختاره ببساطة لأنّه رأى فيه شيئاً مختلفاً عن الآخرين الذين تقدّموا للوظيفة: اختلاف في الروح، وفي طريقة التعامل مع التفاصيل، ومع الحياة... فيليب غير القادر على تحريك أطرافه، كان يبحث عن شخصيّة مختلفة، لعلّها تكون قادرة على إخراجه من رتابة الحياة الجامدة التي يعيشها على كرسي مدولب. فهو غير قادر على تحريك أصابعه، أو حتى على النظر من النافذة. إدريس الشاب النشيط، المفعم بالحيويّة والحياة، يحمل إلى حياته احتمالات جديدة، تختلف عن اهتماماته الباريسيّة المترفة، مثل الفنّ التشكيلي والأوبرا. تنشأ بين الاثنين صداقة قوية يفسرها فيليب للمقربين منه بأنّ إدريس هو الوحيد الذي يتعامل معه بعفوية خالية من نظرات الشفقة التي يعدّها مهينة. يخرج إدريس صديقه الجديد من دوّامة الملل، وينتشله من الخجل الذي يشعر به إزاء إصابته، ويدفعه إلى التواصل وجهاً لوجه مع امرأة كان يراسلها لسنوات.
تتحسّن حياة إدريس من الناحية المادية، وحياة فيليب من الناحية المعنويّة. كلّ ذلك في إطار فكاهي، يصوّر علاقة متكافئة بين صديقين، قد لا يخضع تماماً للانتقادات التي طاولت الشريط، على أساس أنّه يعمل على تكريس فكرة الرجل الأبيض الذي يقدر بماله على تغيير حياة «العبيد». لا يحتمل «غير قابل للمس» مثل هذا النقاش الثقيل. بكل بساطة، يخرج إدريس من الضواحي الفقيرة، ليدخل في حياة جديدة في أحد أحياء باريس الراقية. هناك، ينجح بإخراج فيليب من سجن جسده المشلول، إلى حياة جديدة لم يكن يعتقد أنه سيقدر على عيشها مجدداً. العمل مقتبس عن قصّة حقيقيّة، أخذه المخرجان عن وثائقي يروي حياة رجل الأعمال الفرنسي فيليب بوزو دي بورغو الذي أصيب بشلل تام، وعلاقته بمعاونه ذي الأصول الجزائرية عبد الياسمين سللو. القصّة بأبعادها الإنسانيّة، نجحت في تحويل «غير قابل للمس» إلى أحد أهمّ النجاحات التجارية في تاريخ السينما الفرنسيّة. وليس مصادفة أن العمل السينمائي الوحيد الذي يضاهي «غير قابل للمس» في تاريخ شباك التذاكر الفرنسي هو La grande vadrouille لجيرار أوري (1966) الذي يحكي قصة صداقة غير متوقعة تنشأ بين شخصين غير متكافئين في باريس الحرب العالمية الثانية أثناء الاحتلال النازي. ولعل العامل السوسيولوجي يؤدي دوراً في تفسير ولع الناس بهذه الأعمال الفنية، التي تروي قصصاً مؤثرة تتسم بالسخاء الإنساني، وخصوصاً في أوقات الأزمات التي تزداد فيها المخاوف من اتساع هوة الخلافات ذات الطابع المذهبي أو العرقي.
Intouchables: صالات «أمبير» (1269)