دمشق | أن يستيقظ السوريون على شمس أخرى، فاتورة مؤجلة منذ نصف قرن على الأقل. أرض بور تحتاج إلى حراثة طويلة لتقليب التربة، ذلك أنّ سكة المحراث سوف تصطدم ببقايا هياكل عظمية، وديناصورات محنّطة، ومخطوطات سريّة، تحتاج إلى علماء آثار لفك رموزها، ومقتفي أثر لاكتشاف طريق قافلة اللصوص. هكذا في غمرة هياجهم، نسي حراس الحدود، أو «الهجّانة» ـــــ أولئك المتخصصون بمطاردة المهرّبين ـــــ معنى المواطنة بسبب تقاسم حصتهم من الغنائم.
فاخترع كل سوري خندقه الخاص للدفاع عن هويته المتخيّلة. في المقام الأول، تثاءب البدوي النائم في الدماغ، فاستل سيفه من غمده، متجاهلاً التمارين الطويلة على المدنيّة والاختلاف. لغة جاهلية تقتحم أبجدية قيد التشكّل، فتطيحها تحت وطأة الحماسة، والرغوة السائلة لرعاة يتأبطون حواسيبهم في صحراء السراب، في وقفة طللية. بورتريه سريالي لشخص يرتدي سروال جينز ويضع فوق رأسه عقالاً لامرئياً، يحميه من شمس الأسئلة الصعبة. يرنّ هاتفه الخلوي فيستلّه مثل خنجر. يغرق في ثريد الثورة إلى آخر أصابع يديه، ثم يلقي بالعظام إلى من حوله، فهذا المنسف الغارق في الأدام الدسم يستحق المغامرة.
يتسلل من متاهة أحرف الكيبورد حداء طويل، وعبارات غطّاها غبار النسيان، وكأن غبار غزوة أحد يغطي أعيننا. تستوقفني بنزق كلمة «حرائر». لا تستدعي هذه المفردة الحريّة قدر استدعائها معجماً جاهلياً، في وصف الحرائر والإماء، وجِمال ونوق وخيام، وزعماء قبائل وعبيد، وقهوة مرّة للضيوف، وثغاء أغنام، ونباح كلاب، ومواقد مطفأة.
بيانات لا تتسع لها بسطات سوق الحميدية، من نوع «الغرض بعشرة»، بيانات مكتوبة على عجل، بطريقة كُتّاب العرائض. بعضهم يرغب الزواج عرفيّاً بالثورة، وآخر يفضّل زواج المتعة، وآخر الاغتصاب من دون أن تحبل. لكن من يدفع المهر يقبع في مكانٍ آخر، أو أنه من فرط الانحناء تحت ثقل راكبي الموجة، فقدَ صوته للاعتراض أو الاحتجاج. القاموس الجاهلي يتسع للبيانات المضادة أيضاً، في سوق عكاظ السياسي، فيما الثورة ترتدي ثوب العروس الملطّخ بالدم. دم العذرية على الأرجح. الفحولة اللفظية تتسع لكل الهواة في كتابة الإنشاء الركيك والزعيق والاسم المستعار.
إن فكرة التغيير تحتاج إلى معجم جديد يواكب لحظة غير مسبوقة عربياً، لكن ما نجده، هو خطاب قديم يستعين ببلاغة الأسلاف، أو أنّه يجيب عن أسئلة جديدة بإجابات قديمة. الثورات العربية ـــــ أو ما يسمى «الربيع العربي» ـــــ تشبه أحجية، أو متاهة في غياب وضوح مقاصدها لدى بعضهم، وثورة بيضاء لدى آخرين، تبعاً للمتراس الذي يقف وراءه كلّ منهما. أفكّر في مسّاحي الأراضي الجدد، هؤلاء الذين يرسمون خرائط غامضة في توزيع الغنائم، ذلك أنّ الثورة بمفهوم هؤلاء هي غنيمة حرب أولاً، وكعكة دسمة صالحة للاقتسام في العتمة، ومن دون إشعال شمعة واحدة، كي لا يتسلل غرباء إلى صخب الاحتفال.
لا شك في أنّ المثقف السوري من أكثر الكائنات عطشاً إلى الحرية، ولديه سيرة ذاتية متخمة من نفائس القمع والإقصاء والتخوين، ولكنه بدلاً من أن يحفر بئراً في الأرض الصخرية، اكتفى ـــــ بعد محاولات مرتجلة في الحفر ـــــ بزجاجات المياه المعدنية المستوردة، وألقى معوله جانباً، متفرغاً لشعارات يوم الجمعة العظيم. قراءة هذه الشعارات تؤكد الحيرة العمياء ما بين الجامع والفايسبوك، وحرب دائرة الطباشير في الشدّ والجذب، بالإضافة إلى تصنيع صنم من التمر بالأسماء الجاهلية نفسها. ذلك أنّ الثورة أو الانتفاضة أو الاحتجاجات ـــــ سمّها ما شئت ـــــ التي ما زالت في المخاض وعسر الولادة، تحوّلت إلى أيقونة مقدّسة، محرّم الاقتراب منها من دون وضوء وتعاويذ وتمائم، وكأن مريديها استعاروا قاموس مديح طغاة الأمس، وألبسوه للثورة في قفصها الزجاجي. وإذا بها تدخل المزار المقدّس بالطقوس نفسها التي يحفظها مريدو الأولياء الصالحين.
بائعو تذاكر الثورة، افتتحوا أكشاكاً في شوارع الفايسبوك لبيع الأغاني الركيكة والشعارات المستعملة المستوردة من دكاكين اليسار القديم، ولكن بدمغة مختلفة. هكذا ارتدى هواة ومتعطّلون «تي شيرت» الثورة، وذهبوا إلى الرقص في حانات باب توما إلى حدود الغيبوبة، حزناً على أرواح الشهداء. لعل ما نحتاج إليه في هذه اللحظة، هو فحص المشهد من خارج حدود الخريطة، لا من تضاريس الداخل وحسب، في جردة حساب شاملة، بقصد تظهير الصورة بالألوان الطبيعية، وليس عن طريق «الفوتو شوب» لتزيينها فقط. ما نجده، على صعيد ثقافي صرف، هو خفة في تسلّق شجرة المعرفة، ومحاولة عجلى في قطف التفّاح المحرّم، من دون جهد ومشقة، لمثقفين استيقظوا فجأة، بعد غيبوبة طويلة، على ثمرة يانعة في متناول اليد والفم. فيما كانوا في الأمس القريب، جزءاً من حاشية «الفيل يا ملك الزمان». أن تنهمك في مديح مزايا الفيل بالأدوات نفسها التي تمدح بها مزايا الثورة، فتلك معضلة حقيقية، في كتابة جديدة يُفترض أن تكون متفلتة من معايير الصدأ الذي شاب كتابات كثيرة، كنّا ننظر إليها على أنها مجرد إنشاء عابر. قد يحتج بعضهم بأنّ الفكرة أهم من صقلها، في هذه اللحظة، وأنّ الموقف أهم من البلاغة المضادة. لكن السراج يحتاج إلى زيتٍ صاف، كي يضيء العتمة، فتجاوز التفاصيل الصغيرة، سيراكم تبعات كبيرة، وأعباء سوف تتكدس لتصير ـــــ في نهاية المطاف ـــــ هي الأصل وليس الصورة، سواء لجهة تقنيّة الكتابة، أو لجهة تقديس الأيقونة (الصنم).
في المقابل، لا يمكن تجاهل تأثير وسائل الميديا الجديدة في طريقة الاختزال، وحتى عدد الكلمات. هنا لا تحتاج إلى تمهيد أو توطئة. عليك أن تذهب إلى فكرتك مباشرة، بما يشبه الرسائل القصيرة على الموبايل، فالبلاغة في الاختزال، ولكن اختزال بلا بلاغة، سوف يكون طبخة بحص لا أكثر. بالطبع، سوف يكون امتحان الكتابة الإبداعية أصعب بمراحل مما سبق. ذلك أن الانخراط في لحظة الانفجار وحدها، لن ينقذ النص من الشوائب التقنية، فنحن إزاء عتبة سردية مغايرة، تتطلب قدرة إضافية في قراءة المشهد، وإعادة رصف حجارة الشارع، بما يواكب حركة الأقدام، ورنين ساعة كانت معطّلة لفترة طويلة.



مبادرات مختلفة

شهدت الساحة الثقافيّة السوريّة في قلب المعمعة، عدداً من المبادرات التي تكشف نزعة ملحّة إلى الاستقلال عن الوصاية الرسميّة. مشاريع قديمة مؤجّلة، عجّل الأتون الحالي في بلورتها، مثل «رابطة الكتاب السوريين» التي أعلن عن تشكيلها من لندن، حيث يقيم منسقها نوري الجرّاح، وتضمّ بين مؤسسيها كتّاباً يقيمون حاليّاً في الخارج صادق جلال العظم أو في الداخل مثل ياسين الحاج صالح. ثم أعلن من دمشق عن ولادة «تجمع التشكيليين السوريين المستقلين» وبين أعضائه المؤسسين يوسف عبدلكي. وأخيراً أبصر النور في باريس «تجمع مبدعي سوريا من أجل الحرية» بمبادرة من فنانين مقيمين موقتاً في مدينة الأنوار، بينهم أسامة محمد، ومحمد ملص، وفارس الحلو، وعلي فرزات، وهالة العبدالله، ونضال الدبس...