عمان | يعتقد المنظّر الألماني الراحل ثيودور أدورنو أنّ دخول الموسيقى الشعبيّة على خطّ المقاومة السياسيّة أمر لا يحتمل، إذ «لا يمكن فصل هذه الأغنيات عن مزاجها الاستهلاكيّ الذي يدغدغ المشاعر بسطحيّة حتى لو لبست ثوب الحداثة». لكن، هل يمكن اعتبار الموسيقى السياسيّة حالةً شعبيّة؟ وكيف نقيس تأثير أغنياتها على الوعي الجمعي؟ والسؤال الأبرز: أيهما أهمّ في هذه المعادلة: جودة المنتج التي غالباً ما تتم التضحية بها، أم القضيّة التي تحاول هذه الأغنيّة الانتصار لها؟
عادت هذه الأسئلة مع الكم الهائل من الأغنيات الثوريّة المصريّة التي سمعناها على مدى عام من عمر انتفاضة النيل. لا يمكن بالمطلق الحديث عن أغنية سياسيّة مصريّة من دون استعادة دور الشيخ إمام في مقاومة الاستبداد السياسيّ. لكنّ الفرق بين تلقي الشيخ إمام كموسيقيّ وبين تلقيه كحالة ثقافيّة شاسع جداً. ولا يمكن الحديث عن موسيقى الشيخ إمام وإغفال قصائد أحمد فؤاد نجم. ولا يمكن استعادتهما معاً من دون الحديث عن مزاجه الفوضويّ وسخريته الحادّة، وطريقة انتشار أغنياته في السبعينيّات والثمانينيّات بين الطبقات النخبويّة، حتى وصلت متأخرةً إلى المستوى الشعبي في بداية القرن الحادي والعشرين.
ترافقت استعادة الشيخ إمام مع انفجار الأغنية السياسيّة المصريّة. تسرّبت هذه الأغنيات من الأفلام أولاً مع أغنية «مش باقي مني» في فيلم خالد يوسف «دكان شحاتة» (2009). كانت الأغنية «خبطة» بسبب صدورها أثناء أزمة الخبز، والشعور العارم الذي خلّفته بالذلّ ومحاربة لقمة العيش. أما الانطلاقة الحقيقيّة للموسيقى السياسيّة الجديدة، فجاءت مع قيام الرابر رامي دنجوان بتقديم أغنية «ضد الحكومة» قبل أيام من «ثورة 25 يناير». وقبل ذلك، كانت فرقة الشارع «اسكندريلا» بقيادة حازم شاهين قد بدأت مشوارها عام 2000 بتأثير محدود. أما أثناء الأيام الثمانية عشر، فقد ارتجلت الثورة مئات الحالات الموسيقيّة. هكذا ظهر رامي عصام، وحمزة نمرة، وترسّخ تأثير حازم شاهين ومصطفى سعيد، إضافة إلى الحلقات المرتجلة في ميدان التحرير التي استنسخت عشرات المؤدين الشعبيين.
لكن إذا كان لا بد من اختيار أغنية واحدة كصوت للثورة، فيجب أن تكون «صوت الحريّة» لأمير عيد التي صدرت قبل يوم واحد من تنحّي مبارك، إضافة إلى «حياة الميدان» لـ«مشروع كورال» الذي استفاد من زخم نجاح الثورة في إطاحة حسني مبارك. في تلك الأغنية، تظهر الموسيقيّة مريم (صالح) التي حققت حضورها في استعادة أغاني الشيخ إمام أيضاً، وهي تغنّي: «علّمونا في المدارس، جيشنا المصري هو الحارس» لتكتشف لاحقاً أنه ليس دقيقاً، فتغنّي «بعد طرحك مالحساب، للعساكر والكلاب». هكذا تحوّلت الأغنية المصريّة السياسيّة إلى هدف آخر: المجلس العسكري. رمز هذه الفترة اللاحقة كان فرقة «اسكندريلا» التي شاركت في الاعتصامات والميادين، وقدّمت أغنيات طبخت على استعجال، لتحيّي الثوّار في أماكنهم.
هكذا أيضاً، برزت موجة «الراب» لتأخذ مكانها الطبيعيّ والأكثر مباشرة. عاد رامي دنجوان بأغنية «رسالة إلى المشير طنطاوي»، وأصدر محمد أسامة عدداً كبيراً من الأغنيات في وقت قصير، أبرزها «امسك فلول» و«مفيش رجوع»، وبرز علي طالباب بكلماته الشعريّة العالية.
وكالعادة، امتدّت الثورة إلى الموسيقى التجاريّة، ليغني علي الحجّار «ضحكة المساجين» من قصيدة لعبد الرحمن الأبنودي. واستعادت الثورة صوت عايدة الأيوبي التي قدّمت مع فرقة «كايروكي» أغنية «في الميدان» بكلمات ركيكة، إضافة إلى عشرات الأغاني التي نبتت كالفطر هنا وهناك.
وبينما وجد موسيقيو الموسيقى البديلة أنفسهم خارج هذه المعادلة، استعادت الفنون الفولكلوريّة دورها كابنة التعبير الشعبي الجمعي. نزل الشيخ أحمد التوني وغنّى في ميدان التحرير، وقدّمت فرقة «الطنبورة» السويسيّة أغنية «شلنا الراس ولسّا الديل»، حتى جاء الفلسطينيّ المقيم في القاهرة تامر أبو غزالة ليقدّم انطباعه الخاص عن الأغنية الشعبيّة في أغنية «مهرجان البلاعات» التي تحمل أبعاداً سياسيّة أيضاً.
وباستعادة القضايا التي طرحها أدورنو في البداية، لا يمكن تحديداً قياس أثر هذا النوع من الموسيقى على الوعي الجمعي. فإما ستعتبر موجة تنتهي بزوال أسباب وجودها، وإما تخضع لغربلة مع الوقت لتجذيرها. ولا يبدو الاحتمال الثاني مرجّحاً حتى هذه اللحظة.