تشبه رواية «عناق عند جسر بروكلين» للروائي المصري عز الدين شكري فشير (دار العين ــ القاهرة) جملة بيانو ناعمة، تتوقف فجأة لتترك المستمع في حالة من الوحشة والشجن. وعلى الرغم من الأغلال السياسية التي تغلّف موضوعها الذي يعالج أحوال العديد من المهاجرين العرب في المجتمع الأميركي، إلا أنّه من الظلم حصر الرسالة التي تحتويها الرواية في موضوعي الاندماج والهوية. الأزمات التي يعانيها أبطال الرواية مفتوحة على مأزق الوجود الإنساني الشامل، ولا يمكن النظر اليها في مجال جغرافي يرتبط بإرث هوياتي عربي إسلامي، وإن كان هذا الإرث يعمّق من الشعور بمختلف معاني الاغتراب والتهميش والعزلة. الرواية التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية هذا العام، تحكي رحلة مجموعة من المصريين والعرب يأتون من ولايات أميركية مختلفة لحضور عيد ميلاد سلمى حفيدة أكاديمي مصري يدعى درويش. الدكتور يريد الاحتفال ببلوغ حفيدته عامها الحادي والعشرين، بينما يستعد لمغادرة نيويورك الى بيت صغير يطلّ على المحيط.
هناك، سيقضي سنواته الأخيرة يصارع السرطان الذي أخفى إصابته به عن كلّ المحيطين به، إذ يرغب في استغلال هذه المناسبة كحفل وداع لمحبيه من دون أن يحملهم إرثاً مؤلماً.
من خلال تقنية تعدد الأصوات، نتابع رحلة رامي المصري المهاجر، ويوسف ابن درويش، وداود الفلسطيني المهاجر أيضاً، والدكتور لقمان والد سلمى، وعدنان قريب درويش، ورباب العمري، إحدى الصديقات، هذا فضلاً عن سلمى التي يفرد لها الكاتب الفصل الأخير من الرواية. وفي تلك الرحلة التي يجاور فيها المؤلف بين مرايا مختلفة، نطالع مصائر وهويات مختلفة بالمعنى النفسي. هويات تراكمت على خليتها الرئيسة أو نواتها الأولى جملةٌ من الطبقات التي تظهر وحشتها وحاجاتها الى الاحتفال الذي يبدو أقرب الى طقس تطهري يرغب فيه الجميع للتخلص من أوساخ رحلة العمر. إنّها «إيثاكا» جديدة تذكّر بقصيدة كفافيس الشهيرة، أو بجملة قالها مرةً محمود درويش عن أنّ الطريق الى البيت أجمل من البيت. فما حاجتنا إذن الى محطة الوصول؟
الرحلة التي رغب الكاتب في تأكيدها تجاوز فضاءها الجغرافي لتمضي بالقارئ الى أفق روحي لا سبيل الى بلوغه لأنّ أيّاً من المدعوين لم يصل إلى احتفال عيد الميلاد بسبب ظروف تكشفها لعبة السرد التي يستند فيها الكاتب إلى لغة منضبطة خالية من الثرثرة، تذكّر بطبيعه عمله القديم كدبلوماسي لم يحترف الحياد فقط، وإنما تعلّم أيضاً أن لا يستفيض في ما لا طائل من ورائه. هذا باستثناء فصل «ماريك» المكتوب بنفس شعري، إذ يحكي فيه الدكتور لقمان والد سلمى حكاية عشقه بلغة تنطق بحسها الإنشادي.
لجأ فشير الى لغة تقريرية نزع عنها الجفاف وأبقى فيها طاقة التشفير المعلوماتي التي تجعلها لغة كشف وإيضاح، فيما أضحت الأماكن التي مرّ بها أبطاله عابرة محمولة على الخفة أكثر من الثبات. الأبطال أنفسهم «عابرون في كلام عابر» يمرّون على مقاه، ومحطات قطار، ومطارات، تؤرقهم فكرة الوصول والاستقرار لتبدو بحد ذاتها أملاً منشوداً. غير أنهم جميعاً يفشلون في بلوغ هذا الهدف. وعلى الرغم من أنّ الرحلة ذاتها وسيلة لاستنطاق الذاكرة ومساءلتها، إلا أنّ ذاكرة الجميع لم تكن خالية من المعاناة ولا تختلف كثيراً عن ذاكرة الدكتور درويش ذاته، المؤرخ المولع بكتاب ألبرت حوراني عن «تاريخ الشعوب العربية»، الذي كان يهديه لكل النساء الراغب في
معاشرتهن.
لم تتمكن أي واحدة من نساء درويش من استكمال قراءة الكتاب. بقيت معرفتهن بالمكان الذي جاء منه معرفة ناقصة، وبقي تاريخه مثقوباً مؤهلاً للعبة النسيان أكثر من استعداده لمساءلة مصيره والتجارب التي عاشها داخل مصر وخارجها. وكلها تجعله غير راض تماماً عن حياته ولا مصير ابنته التي قادها القلق الذاتي الى الضياع في مصر وارتداء الحجاب، فيما يبدو استدعاء حفيدته سلمى التي تتعرض لحادث عنيف قبل أن تصل إلى مكان الاحتفال أشبه بـ «أيقونة» لاحتفاله بالغياب.