المخرجة لينا أبيض، والممثلتان عايدة صبرا وجوليا قصار، ثلاث نساء التقين على خشبة «مسرح المدينة» لتقديم نصّ «الديكتاتور» لعصام محفوظ. ستّ سنوات مرّت على رحيل الشاعر والمسرحيّ اللبناني الرائد. صاحب «الزنزلخت» كتب «الديكتاتور» عام 1968 وقدِّمت للمرة الأولى مع أنطوان كرباج وميشال نبعة. يومها، فرض الرقيب اللبناني تغيير عنوان المسرحية الأصليّ «الجنرال»، فاستبدله محفوظ بـ«الديكتاتور» الذي صار أحد النصوص المرجعية للمسرح اللبناني في عصره الذهبي. بعد 44 عاماً، كيف نعيد إحياء النص اليوم في زمن سقوط الديكتاتور، وبأي طرح فنيّ ورؤية إخراجيّة؟
«سعدون (على الهاتف) ألو مسرور. أمر من حضرة الجنرال. اعتقلوا الشعب. عاشت الثورة». نحن هنا في غرفة أشبه بزنزانة تجمع الديكتاتور وخادمه سعدون، وفي الخارج عصيان (متخيّل) ضدّ الملك. صلتهما الخارجية هاتف يرن، نعلم لاحقاً أنّه مقطوع. النص الأساسيّ مكتوب على لسان رجلين: الجنرال وسعدون. ترتكز الحبكة على الثنائية الكلاسيكية، السيد والعبد. ثنائية متشقلبة في ديناميكيتها السلطويّة. يتحوّل السيد عبداً عندما يكتشف أنّه لا معنى لسلطته في غياب الآخر. هكذا يتعلق الجنرال بسعدون ليحوله لاحقاً إلى الملك، ثم يقتله. إنّها ثنائية عابرة لتاريخ المسرح من دون كيشوت، مروراً بالماركي دو ساد حتى «في انتظار غودو» ... ثنائية لا تنحصر في جنس ذكوريّ أو أنثويّ، بل تتعدى ذلك إلى مخاطبة الجندرة داخل كل رجل أو امرأة، ما يلغي برأينا أي حاجة لتبرير خيار الثلاثيّ النسائيّ في توكيل نص بصيغة المذكر إلى امرأتين. هكذا أدّت جوليا قصار دور الجنرال، وعايدة صبرا دور سعدون في صيغة ومفردات ذكوريّة، تخلّلتها بعض المخاطبات المؤنثة الخاطفة التي لم نجد لها أي توظيف دراميّ ولا بعد بريختي في التغريب، إذا كان هذا المقصود!
في رؤيتها إلى «الديكتاتور»، اعتمدت لينا أبيض سينوغرافيا المسرح الفقير. على خشبة فارغة، نشرت عند زاويتين منها مرآتين مع مكعبات بيضاء وسط المسرح. غالباً ما يستعمل عنصر المرآة في المسرح كمجاز للدلالة على نظرة الممثل إلى داخله، وخوالج ذاته، وتركيبته النفسية، إلى الأنا والأنا العليا ... هكذا وظّفتها أبيض رغم استنفاد ذلك التوظيف للمرآة. أما المكعبات، فكانت تتحول إلى كرسي، أو سرير، أو منصة للخطابة. هدفها الأساسي كان خلق مستويات، وتلوين الخشبة. لعلّه كان من الأفضل الذهاب إلى خيار راديكالي في تعرية المسرح إلا من الممثل. أما الإضاءة، فكانت خجولة. بقي الهاتف اللاسلكي وفردة الجزمة العنصرين اللذين شكّلا جزءاً أساسياً ناجحاً من تركيبة الشخصيتين. ورغم الاعتماد على منهج كلاسيكي في التمثيل وتركيب الشخصية، كان حضور عايدة صبرا وجوليا قصار بارزاً على الخشبة. استطاعتا أن تتبنّيا نصاً مكتوباً لشخصيتين ذكوريتين. نشهد التواطؤ في العلاقة بين الجنرال وسعدون عبر التفاصيل الصغيرة التي تمهّد لانقلاب علاقة السيد بالعبد، وتبقى أقوى من خطّ المبالغة أو «البورليسك» المعتمد كتوجه أساسيّ للعرض. لا شك في أنّ الممثلتين، اللتين تشكلان جزءاً أساسياً من ذاكرة المسرح اللبناني الحديث، قادرتان على تأدية أدوار مماثلة. لكن، ماذا أضافتا إلى نص كتب في الستينيات؟ هل استطاعتا محاكاة الفعل الحيوي لنبض الشارع؟ في زمن الثورات حيث حركة الأجساد في المساحات العامة تغيّرت، وخلقت مفردات جديدة للتعبير، ألا يجب أن ينعكس ذلك على لغة الممثل؟
على أي حال، فاعتبار «الديكتاتور» في صلب راهننا العربي أمرٌ يحتمل النقاش. كتب محفوظ نصّه عام 1968، أي في زمن ربيع براغ وحركات التحرر وثورات العمال والطلاب من إيطاليا، وبولونيا، وفرنسا إلى الولايات المتحدة، واليابان ... في الجهة الأخرى، كان العرب ينوؤون تحت ثقل النكسة، لتدخل بعدها هذه البقعة من العالم زمن الانقلابات والجنرالات، والديكتاتوريات. من هنا، تأتي أهميّة محفوظ في تحفيز مجتمعه، وتحريضه على تلك السلطة الآتية مدفوعةً بالجشع، وحب السلطة والجنون ... اليوم، قُلبت الصفحة وهبّ ربيع الثورات العربية، فاهتز عرش الديكتاتور. هل هي ثورة أم وهم؟ ليس مهماً تحديدها بقدر أهمية تحديد أنّ نص «الديكتاتور» لم يعد معاصراً. نصوص اليوم لا تنطق باسم الديكتاتور، بل باسم محمد البوعزيزي الذي رفض الواقع المفروض عليه. أين نحن من فعله؟ أين المسرح اللبناني؟ ألا يُفترض مواكبة إرهاصات الراهن، بل أن يكون سباقاً كما فعل محفوظ نفسه في الستينيات؟



«الديكتاتور»: حتى نهاية شباط (فبراير) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـــ بيروت) ـــ للاستعلام:01/753011