شهدت السوق الفنية المحلية محاولة إضافية في مجال نشر الموسيقى المسمّاة بديلة. إنّها Edict Records التي انطلقت بثلاث أمسيات أقيمت الأسبوع الماضي في بيروت. تسعى هذه الشركة إلى احتضان التجارب الفنية الجادّة بدءاً من لبنان على وجه الخصوص. في المبدأ، يستحق هذا الهمّ الفني التقدير، لمجرّد مواجهته الموجة «الروتانية» الساحقة للأذواق، من خلال تقديمه خياراً فنياً آخر في مواجهة اختزال كل الأنماط بالأغنية الهابطة.
غير أن على «إيدكت ريكوردز» إدراك أمريْن: أولاً، الاستفادة من أخطاء أسلافها تفادياً لإفلاسها ولو معنوياً. وثانياً، عدم الاعتبار المسبَق بأن التجربة الفنية البديلة تنتج جمالاً حكماً، وبالتالي إلصاق التهمة بالجمهور بأنه «لا يسمع» إذا فشل أحد رهاناتها. إذاً، ثلاث فرقة قدمت أعمالها الجديدة على «مسرح دوّار الشمس»، نتناول هنا تجربتها، في انتظار أن تصدر في ألبومات قريباً.
الأمسية الأولى أحياها الثنائي إيلي خوري (عود وبزق) وخالد ياسين (إيقاعات). لا يمكن اعتبار ما قدّمه الفنانان ابتكاراً، علماً بأنّ الأعمال كلها كانت جديدة (تأليف إيلي خوري، باستثناء مقطوعتيْن من التراث التركي). حتى مقاربة المرافقة الإيقاعية، ليست جديدة، ولو أنها غير مألوفة عندنا. بمعنى أنّ ياسين لم تقتصر مهمته على ضبط الإيقاع، بل شاركت آلاته أحياناً في بناء الجملة الموسيقية، وفي مرافقتها «حرفياً» (على الطريقة الهندية مثلاً). المشروع يقع تحت خانة الشرقي الحديث الذي لا يجوز التعويل عليه أكثر مما يحتمل. فهو يجد جذوره في تجارب كانت ضرورية ربما، غير أن اعتبارها مدرسة في التأليف يَضرّ مبدأ الهيكلية المتينة التي تعيش طويلاً. لا تخضع كل أعمال الفرقة لهذه المعادلة، إذ نجد أيضاً الملفِت نغماً وشكلاً وتقطيعاً. أما نقطتا القوة في المشروع، فهما ـــ من دون أدنى شك ـــ الكيمياء الجميلة بين الرجليْن، والمهارة في أداء المكتوب أو إضافة المرتجَل.
في الليلة التالية، قدّم عازف البيانو طارق يمني (مع زميليْن له من سلوفينيا، على الدرامز والتوبا) برنامجاً معظمه من ألبومه المرتقب. بعد سنوات من دخوله معترك الجاز، أكّد الفنان الشاب في هذه الأمسية أنه الأفضل في جيله محلياً. مقاربته لكلاسيكيات الجاز مقنعة أو أكثر. مؤلفاته الخاصة تبرز جانباً مهماً في شخصيته، ولا سيما إذا استندنا إلى مقطوعة «سماعي يمني» التي يبيِّن فيها حنكته في صناعة لحن حسن ومتين، يُبنى عليه الكثير ارتجالاً في الجاز. أضِف إلى ذلك إعداده الممتاز لإحدى مقطوعات باخ (المقدّمة الثانية من الكتاب الأوّل لـWell Tempered Clavier)، والتعديلات البنيوية (تغيير شكل الإيقاع) والإضافات التي أجراها عليها، ما يضعه في مرتبة تحمّله وزراً كبيراً للحفاظ عليها. أما نقطة الضعف النسبية، فتكمن في دوران بعض الارتجالات في حيّز ضيّق، وخصوصاً في بداية الأمسية، ما قد يعود سببه إلى رهبة الحيّ. هناك الكثير من الكلام يخصّ استخدام آلة التوبا (Tuba) التي قد تكون بديلاً (جيداً؟) للكونترباص، بالإضافة إلى أداء زميليْ طارق، نتركه إلى حين صدور الألبوم.
اختتم الحدث باسل رجوب وفرقته المؤلفة من فراس شهرستان (قانون) وإيلي عفيف (كونترباص) وخالد ياسين (إيقاعات). لا ضرورة لتأكيد المؤكد في ما خصّ شخصية رجوب الفنية عزفاً وتوزيعاً وتأليفاً، ولا لتكرار الملاحظات على رؤيته في التأليف القائمة على مبدأ الفيوجن. غير أن ثمة حلقة مفرغة، عليه الخروج منها، وهي الجنوح شبه الدائم نحو التفجّع (على الطريقة التركية) في الارتجال على أنغام من تأليفه، بعضها يميل أيضاً إلى هذه الأجواء. في ألبومه «خَمير»، اعتقدنا أنها مرحلة عابرة، لكن الأعمال الجديدة التي سمعناها، علقت أيضاً عند هذه الحدود التي لا تتسع لفنان مثل رجوب، ولا يفلت منها سوى القليل والجميل. أما التنفيذ، فقد جاء عالي الدقة، فيما قدّم أعضاء الفرقة لحظات ارتجال جيدة.



edictrecords.com ــــــ 05/953281