أن يولد الطفل على ضفاف الفرات حيث عاش النفري صاحب عبارة «كلّما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة»، وفي مدينة نفر التاريخيّة التي عثر فيها على أقدم مدرسة لتعلّم حروف الكتابة، فمعناه عند سعيد الغانمي أنّك «تنفست عبق التأريخ للمرة الأولى وتعلمت أنّ بيت الألواح أو «بيت دوبا» بالمسمارية، يختزن خلاصة التقاليد التي تهديك الى سرّ الحياة والوجود». انتقال العائلة الى بغداد كان يعني مغادرة موطن بدايات عملية التدوين. في العاصمة العراقية، سيقرأ «ألف ليلة وليلة» خلال المرحلة الابتدائيّة، هو الصبيّ الذي نشأ في بيت لا يحوي سوى كتابين، هما القرآن و«سيرة أبو زيد الهلالي». شيئاً فشيئاً، سيكوّن مكتبته التي ستضمّ دواوين الشعر على وجه الخصوص.

وربّما قاده في ذلك حلمه بأن يكون شاعراً، بعدما امتلك قدرة غريبة على حفظ النصوص.
مع دخوله المرحلة المتوسطة، كتب آلاف القصائد الموزونة. وببلوغ المرحلة الثانوية، اتّسعت مداركه ليتجه الى القراءات الفكريّة والفلسفيّة والنقديّة. هنا بدأ الشعر يضمرُ في دواخله لصالح تساؤلات كبرى كانت ثمرة مطالعته نتاج الجواهري والحبوبي والتعمّق في دراسات لغويّة حديثة جعلته يعيد النظر في مفاهيمه: «لا أتذكر أنّي تأثّرت بشخصيّة محددة في الحياة العامّة، بل بأفكار بعض المفكّرين النقديّين، بدءاً بصدر الدين الشيرازي وانتهاء بنورثروب فراي».
بعد التوجه إلى جامعة الموصل، وجد نفسه محظوظاً برؤية كلّ بقعة من العراق، فشعر بأنّه وريث ترابها على امتداد العصور. في جوار منارة الحدباء، كان لبقايا الشعر حضور في أعماقه. هكذا، أنجز مجموعته الشعريّة الأولى والأخيرة «البدايات الأخيرة» التي انتهى منها عام 1986. وقبل عامين فقط، صدرت عن «هيئة الثقافة والتراث في أبو ظبي» بعدما فقد مجموعة ثانية هي «عودة طائر الفينيق».
الدراسة الجامعيّة وفّرت للغانمي فرصة التأمّل في خياره الشخصيّ كمبدع. عدّ «التورط في كتابة الشعر أيّام الثمانينيات انزلاقاً الى الايديولوجيا التي تعدّ أكبر خطر على الأدب». لذا مثّلت عبارة هايدغر «اللغة بيت الكينونة» منطلقاً له كي يتمعّن في اشتغاله على اللغة بوصفها أداة للتفكير تقودنا الى حيث لم نقصد. هذا الوله بعالم الألفاظ والكلمات أفضى الى اعتناقه نظريّة «أطوار اللغة الثلاثة»، وتحوّل هذا الاعتناق الى مشروع كتاب أصدره تحت عنوان «فاعلية الخيال الأدبيّ».
وأمام مشهد أدبيّ معبأ بالايديولوجيا، غادر البلاد مع أوّل جواز سفر حصل عليه. الترحال منحه القدرة على إصدار 50 كتاباً والعمل على خمسين أخرى. هو لم يخرج من العراق للخلاص فقط بل «لإنضاج المشروع الفكريّ والنقديّ بعيداً عن الحروب». هكذا، كانت ليبيا أحد المنافذ القليلة المتاحة أمام العراقيّين.
الإقامة في بلد ثانٍ تحتاج بنظره الى «خلق وطن بديل تنتمي اليه، أو أن تخلق عراقاً رمزيّاً داخلك». عندها، بدأ مدرس اللغة الإنكليزيّة على الحدود الليبيّة التونسيّة حياةً جديدة ابتعد فيها عن السياسة والاعلام، وإثبات الحضور في أوساط المثقفين الليبيّين. لكنّ ذلك لم يمنعه من التفاعل مع أسماء بعينها كما يدلّ على ذلك كتابه «ملحمة الحدود القصوى: المخيال الصحراوي في أدب ابراهيم الكوني» الذي لم يرَ النور إلا في بيروت.
في ليبيا أيضاً التي بقي فيها سبع سنوات، اشتغل على «العصبيّة والحكمة: قراءة في فلسفة التأريخ عند ابن خلدون». هنا أسهمت عزلته الاختياريّة في فتح المنافذ بين الحقول الأدبيّة والثقافيّة المختلفة.
مغادرته الى الأردن والبقاء فيها عامين، جاءت بسبب مصاعب راحت تواجه العراقيّين، خصوصاً لجهة منحهم حقّ العمل في ليبيا. في عمان، بدأ الغانمي الكتابة في الصحافة ليسافر بعدها الى أستراليا حيث واجه تجربة حياتيّة وثقافيّة جديدة: «أدين لهذا البلد بإنتاج الجزء الأكبر من أعمالي» هكذا يعلّق مختصراً سنوات وجوده هناك.
العيش في أستراليا كان كافياً لصياغة علاقة جديدة باللغة الأخرى، والانتقال الحاسم من فكرة اعتبارها مجرّد وسيلة للتوصيل الى كيان نتفاعل معه انطلاقاً من قول الشاعر صفي الدين الحلي «كلّ لسان في الحقيقة انسان». تراه نتيجة ذلك مشغوفاً حتى بلغات ميتة مثل السبئيّة والثموديّة والنبطيّة التي تناولها في كتابه «ينابيع اللغة الأولى» محاولاً تصنيف لغات الأدب العربيّ القديمة والبائدة عبر قراءة آلاف النقوش بجردة تاريخيّة ونقديّة لها.
وطوال هذه السنين، ظلّت اللغة بالنسبة اليه «الأنموذج الفكريّ الذي يصنع الوجود ويعطي القيمة للأشياء ويفتح الأذهان على التعدّديّة». حتى أن إعجابه المفرط بالنفري منبعه اللغة المبشِّرة بتحديث لم نصله حتى الآن، فالأخير سائح في اللغة بقدر ما كان سائحاً في المكان، وهذا ما يمكن معاينته في انفتاح تجربته الصوفيّة في أي نصّ من نصوصه التي عشقها ابن مدينته.
قبل أن يعود الباحث والمترجم والناقد إلى العراق للمرة الأولى عام 2009، رسم لوطنه صورة موحشة كي لا تكون صدمته أكبر بعد كل هذا الغياب. لكنّه وجده أفضل ممّا تخيّله لأنّ «ما يسمعه في الأخبار أكثر هولاً مما رآه». هو «بحاجة الى زيارة مرّة واحدة في السنة، كي لا تنقطع الأواصر جميعها». ورغم تفاؤله، يقرّ «لنكن صريحين. لن يعود العراق الى زهوه في السبعينيات» قبل أن يضيف: «مشكلة العراق الحالية هي ثقافيّة بحت. السلطة والمعارضة تسيران في اتجاه واحد ولا يقدّمان بدائل عن بعضهما. يراهن كلّ منهما على افشال الآخر، وفي النتيجة، هما ليسا بديموقراطيين».
في مقابل ذلك، فإنّ أكثر ما أحزن الغانمي في بغداده هو «الاستقطاب الطائفيّ» الذي لمسه. في زيارتيه الأولى والثانية التي أتمّها قبل فترة، تأكّد أنّ «الجامعات أيضاً جزء من الثقافة السائدة، فهي واتحاد الأدباء استكمال لمشروع السياسيّين وليس مشروع المثقفين» ما يجعله مقتنعاً بتبعيتهما.
الناقد والباحث الذي يحتفظ بصورة خاصّة عن وطنه، يجد وهو يمشي في شوارع بغداد أنّ «تصحيح ما يجري لا يتحمّله فرد واحد، بل منظومة ثقافيّة شاملة بحاجة الى إعادة نظر» ليشمل ذلك تنظيف الشوارع وتنظيم السيّارات وعلاقة الثقافة والمثقفين بالمجتمع.
وبينما يطالع خبراً في صحيفة عراقيّة يشير إلى الاستعداد للاحتفال بـ«بغداد عاصمة الثقافة العربيّة لعام 2013» يعدّ مشروعه جزءاً من الثقافة العربيّة ولا يمكن فصله عنه. المشكلة برأيه أنّ «دور المثقف يتراجع في معظم البلدان العربيّة، وتحديداً بعد الزوبعة الأخيرة». هكذا يصف «الربيع العربيّ» الذي يعتبره «انفجاراً اجتماعيّاً ضروريّاً».
نتوقف عند تقييمه للأحداث الحاصلة في أكثر من بلد عربيّ، لكون توصيف «الربيع» متفائلاً جدّاً كما يقول لأنّه «يخشى أن تفضي هذه الانفجارات الى انفجارات وحالات أخرى من المحو والسحق التي تعيشها هذه المجتمعات». مع ذلك، لا يؤمن صاحب كتاب «منطق الكشف الشعريّ» بنظريّة المؤامرة، فما حصل نتيجة طبيعيّة للقمع الطويل. «لقد تأخّرت ردود فعل المجتمعات كثيراً، وها هو الغرب يحاول استدراج هذا الحراك لصالحه».



5 تواريخ

1958
الولادة في الديوانية (جنوب العراق)

1982
الحصول على إجازة من قسم الترجمة ـــ كلية الآداب في جامعة الموصل

1986
صدور كتابه الأوّل «اللغة علماً» عن «دار الشؤون الثقافيّة» في بغداد ــ سلسلة الموسوعة الصغيرة

1995
مغادرة العراق الى ليبيا للعمل مدّرساً للغة الإنكليزيّة

2012
صدور كتابه «كنوز وبار ـــ الملحمة العربيّة الضائعة» (منشورات الجمل)