«كافكا... الخطيب الأبدي» (فلاماريون). رواية نشرت العام الماضي في فرنسا عن أحد أشهر الكتّاب التشيكيين. متخيَّلة صحيح، لكنّها تستلهم حياة هذا «السوداوي» الأزلي. صاحب «القلعة» و«المحاكمة» و«المسخ» عاش طوال حياته شبيهاً بأعماله. في رواية جاكلين راوول دوفال، نرى فرانز كافكا (1883 ــــ 1924) القلق كأبطال رواياته، يخاف الحب كأنه حبل سيلتف حول عنقه... لكنه كان مستعداً لعشق أولئك الملهمات اللواتي نقل تفاصيلهن إلى نصوصه أو كنّ دافعه ليرتكب فعل الكتابة.
حبيبات كافكا وملهماته كنّ محفزاً لإنجاز الأعمال التي غيّرت تاريخ الرواية، ودخلت بها القرن العشرين كما تؤكد كاتبة رواية «الخطيب الأبدي». فيليس باور، ميلينا جيسنسكا، ودورا ديامان. نساء سبرن أغوار الكاتب الذي تلبّسه قلق وجودي مزمن. ميلينا التي التقاها في بدايات العشرينيات من القرن العشرين، كانت تبلغ 23 عاماً. شابة جميلة مجنونة، مرّت على مصحّ عقلي تسعة أشهر قبل زواجها بمصرفي. التقاها كافكا في أحد مقاهي براغ، وكان اللقاء السريع كافياً ليعشقها ويكتب لها العديد من الرسائل نشرت لاحقاً في كتاب «رسائل إلى ميلينا» الذي يغطي مراسلاته إليها منذ عام 1920 حتى 1923.
فيليس باور كانت خطيبته الأولى لسنوات. كتب لها أيضاً عشرات الرسائل التي نشرت في مؤلف يفوق 400 صفحة حمل عنوان «رسائل إلى فيليس» وغطى مراسلاته من 1912 حتى 1917. مع فيليس باور، فسخ الخطوبة مرتين حين كانا على أبواب الاقتران، وألهمته قصة «المسخ» و«في مستوطنة العقاب» ومحاولاته الأولى في كتابة «المحاكمة» التي عبّرت عن قلق وجودي عميق.
علاقات كافكا بحبيباته كلّها ألهمته نصوصه وشكّلت حافزاً له لـ«الغرق» في فعل الكتابة. بعد كل علاقة، كان ينطلق في كتابة محمومة تظلّ غير ناجزة من قبيل أعمال «القلعة»، و«المحاكمة»، و«أميركا»، وكتب كل واحدة منها مباشرة بعد فشل علاقة حب. في إحدى رسائله يقول: «أن يكون إلى جانبك أحد يكون متفهم، أن يكون امرأة، يعني أنك محاط بعناية من كل جانب، أنّك تملك الله». وفي رسائل أخرى، يقرن بين عشيقاته وبين العواصف الثلجية والسأم والخوف. سوداوي، وحزين أبدي، وهارب لم يقو يوماً على التشبث بامرأة حتى النهاية. في علاقاته، كان كافكا يدرّب نفسه على الوحدة والمرارة والفقدان الذي تتدرج ألوانه داخل نصوصه. كانت علاقاته امتحاناً عسيراً. في الكثير من رسائله، تحضر كلمة مفقود. كانت نساؤه معذباته ومصدر استعارات جميلة، صوِّرت معشوقاته كشخصيات روائية يرعى حبّها بالابتعاد عنها.
إن كان كافكا يفضّل الحب عن بعد، فهو شبيه بشعرنا الجاهلي الذي تخيّم عليه دوماً ربة وملهمة تواجه الشاعر بالصدّ والهجر. الوصل غير المكتمل لملهمات الشعراء العرب، وجد صداه في عشرات القصائد التي خلدها تاريخ الشعر العربي من قيس بن الملوح إلى ابن زيدون الأندلسي الذي كانت له قصة عشق مع ولادة بنت المستكفي. ابن زيدون كان نموذج الحبّ الأندلسي. تجود ولادة بنت المستكفي بوصلها، تم تترك الشاعر في حسرته، وهو ينشد قصائده عن النأي والهجران بعد الحب الكبير الذي عاشه إلى جانبها. ولعلّ أحد أجمل أبياته حديثه إلى الليل. «يا ليل طل أو لا تطل لا بد لي أسهرك. لو بات عندي قمري ما بت أرعى قمرك». الكتابة عن الحب المفقود من التقاليد الأدبية في الأندلس التي كانت الملهمات دوماً حاضرات فيها. وربما أبرز تجلياتها كانت مع «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي الذي يعرض فيه حالات العشاق. الغناء الأندلسي الغرناطي والملحون يستمد أيضاً الكثير من القصائد التي كان للملهمات أثر كبير فيها حتى أيامنا هذه.
في روايته «احتمال جزيرة»، يتساءل الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك عن سر حيازة الرواية موقعاً مركزياً في الأدب والفنون. ويجيب الكاتب الذي أثار سخط الجميع بمن فيهم النساء أنّ للرواية مركزيتها في العالم المعاصر لأن موضوعها المحوري هو الحب. هذا الإحساس البدائي هو الأكثر انغراساً في وجدان البشر.
لهذا، فالملهمات النساء محرك الكثير من الأعمال الروائية. واحدة من أشهرهن كانت ليونا ديلكور التي ألهمت الشاعر السريالي أندريه بروتون عمله الفريد «نادجا» (1928). تحدث بروتون عن تسعة أيام قضاها إلى جانب هذه المرأة المجنونة التي قضت فترة في أحد المصحات العقلية. المرور العاصف لنادجا في حياة بروتون كان مفترقاً دفعه إلى حمى من الكتابة عن الشابة الشبيهة بربات الشعر التي تصوّرها الميثولوجيا.
رجل آخر أحب امرأة بجنون وكتب عنها. إنّه لويس أراغون والسا التي عشق عينيها. كانت مثالاً نادراً لامرأة تكمل المسار إلى جانب عاشقها الكاتب. النصوص التي كتبها الشاعر عن امرأته بين 1941 و1942 نشرت عام 1942، وشكلت بداية أسطورة عشق دامت حتى النهاية. ثم هناك في العالم العربي نزار قباني. كتابته تجعل المرأة الملهمة الأولى والأخيرة. وكانت قصة عشقه لبلقيس وأعماله الشعرية عنها، دليلاً على أنها ملهمته ذات السطوة على نصوصه. لكن «الحبّ ليس رواية شرقية بختامها يتزوّج الأبطال» والملهمات لا يكنّ دوماً زوجات أو حبيبات. هناك أيضاً العابرات والغريبات اللواتي يعبرن الأسرّة ويتركن مذاقاً مراً كقهوة صباحية بعد السكرة. أشهر سكارى الأدب المعاصر تشارلز بوكوفسكي (1920 ـــ 1994) عرف كثيرات، وكتب عنهن. بعضهن كن نحيفات، ومدمنات مخدرات، وداعرات. وأخريات بدينات، وربات بيوت وعفيفات. العاهرات منحنه الرغبة في الكتابة، وكثيراً ما تحدث عنهن في نصوصه. ورغم أنه كان يصف الحبّ بالكلب الآتي من الجحيم، فقد ألهمه الكثير من النصوص. ادّعى صاحبنا أنه عجوز قذر وملاكم عنيد للواقع الجحيمي في لوس أنجليس. لكنه في الواقع لم يكن إلا كائناً هشاً آخر، يختبئ من «طائر أزرق» يتطاير في قلبه، ولا يريد أن يريه للعالم كي يدّعي أنّه قوي وصعب المراس. بوكوفسكي الذي لم يعرف النساء إلا متأخراً أحبّ عديدات، خانهن وبكى في الشارع. خانهن مع القصيدة أيضاً، وأعلن الحداد عليهن. وكما يقول في قصيدته «ساقان وفخذان بيضاوان»: «أنا واثق من أنّ مسز كرسون/ لم تدرك إطلاقاً ما الذي/ فعلته ساقاها/ وفخذاها البيضاوان بنا».




«ترقص كارمن/ في شوارع إشبيلية/ شعرها أسود/ وبؤبؤة عينيها براقة./ يا فتيات الحي/ أسدلن الستائر لتمضي كارمن حالمة بالرقص/ جسدها من نار بركان/ وروحها طائر الرعد/ لتمضي كارمن في رقصتها، مع عشاق أيامها الماضية» (لوركا)