خلافاً لكل ما تحتويه مدوّنة الحب العربية من نفائس، تحضرني أولاً جملة كتبتها نور الحلبي على فايسبوك. عبارة لكاتبة مجهولة تختزل معنى الحب في لحظته الراهنة «نهاراتك مالحة ولياليك حامضة.. أعتقد أنك تصلح للفتّوش أكثر مما تصلح للحب». لا شك في أنّ المسافة طويلة ومليئة بالحفر بين ما كان يكتبه الشعراء العذريون، مروراً بابن حزم في «طوق الحمامة» إلى شعراء اليوم. ما حصل أن النص الجديد غادر منطقة العشق إلى معجم آخر. معجم حسّي أطاح حاسة النظر واشتغل عن كثب على حاسة اللمس. ليس لدى شاعر الألفية الثالثة ما يفعله حيال الوصف، هو يذهب إلى شباك المرمى مباشرة.
وإذا به يكتب نصاً شهوانياً معلناً يخلو من البلاغة القديمة. لا يراوغ في الفسحة الفاصلة، بل يذهب إلى ما هو حميمي وملموس. يقول قيس مصطفى «الخطيئة كانت ترعى جسدي»، فيما لا يتردد رائد وحش في القول «أبوس حذاءك». ساعي بريد نزار قباني الذي كان يحمل رسائله الملطّخة بالطوابع والانتظارات وحمّى العشق، اختفى. لم يعد لديه ما يفعله في عصر الرسائل القصيرة التي انتقلت إلى الشعر. حتى أنّ أسعد الجبوري أصدر دليلاً بعنوان «قاموس العاشقين» يحاكي فيه هذه الرسائل «لا يمكن المكوث في حضنك دون الاستغاثة بمطافئ الحريق».
نحن إزاء جملة سريعة، وخشنة، ومبللة بالرغبة. تقول سوزان عليوان «كم هو وحيد الحب/ دائماً بصيغة المفرد». أما إيمان الإبراهيم فتتوغل أكثر في حسيتها قائلة «كلما عريتني أغمضتَ عينيك/ هل أنا مشعة إلى هذا الحدّ؟». كأن قصيدة الأسلاف غطاها غبار النسيان، والسرعة في تحقيق الوصال، فعاشق اليوم لا يحتمل الوقوف على الأطلال. إنه يشعل النار في موقد الشهوة، من دون خشية أو مراوغة بلاغية. وسينظر بخفّة إلى ما قاله عنترة في عبلة فوددت «تقبيل السيوف لأنها/ لمعت كبارق ثغرك المبتسم». على الأرجح، لن يتمكّن أحفاد فالنتاين من حمل السيف، فهم بالكاد يحملون وروداً حمراء للغواية أكثر منها إعلاناً لفحولة متخيّلة. اللافت أن أغراض الشعر العربي الجديد تكاد تتمحور حول ثيمة واحدة هي الحبّ، لكن بعد تشذيبه من شوائب العفّة، وهدم المسافة بين مراتب الحب كما سماها الثعالبي. إيروسية صاخبة اختلطت المعاني فيها، بين اللوعة والوله والكَلَف، والجوى والهيام، وإذا بالشاعر يحتفل باللذة أولاً وأخيراً. تقول عناية جابر باطمئنان «أتمدد قربك في الظلام، وينبت صمت كصيحات أوز». كأن نص اليوم هو نص العشق في ذهابه وإيابه، منذ ذلك النداء الذي حفرته عاشقة سومرية على لوح طيني، قبل سبعة آلاف عام، مخاطبةً حبيبها «يا عسل النحل» إلى آخر مدوّنة كتبها عاشق مجهول على شاشة افتراضية، دونما هلع من إثمٍ أو خطيئة.