بحنين وحسٍّ شفيف، يلقي الروائي السوري خليل صويلح (الصورة) الضوء على مساحة مخبوءة في حياتنا، قد يخالها المرء للوهلة الأولى خاصة وغير مرئية في هذا الكون الفسيح، إلا أنّها تبدو وقد شملت وطناً كاملاً يعكس أشجان أمّة بكاملها. وهذا ما سيجعل من روايته «سيأتيك الغزال...» (دار رفوف) عملاً حساساً ودقيقاً وواسع المدى. لقد استطاع خليل صويلح أن يقدِّم لنا عملاً يلقي من خلاله الضوء على مساحات الخواء والتصحُّر والغربة التي غزت أرواحنا. «كنت أفكّر بما صنعه الجفاف خلال سنوات متعاقبة، لعلّ التصحّر لم يتوقّف عند حدود الطبيعة، بل اقتحم... عقول البشر وأفئدتهم». تصحر في مسامات الوجوه، وحركة اليد وهي تصافح يداً أخرى. تصحر في الأرواح.
إنها ليست إدانة ساخط متذمر، بل هي عتب الحبيب على حبيبته التي أصابها ألف مصاب ومرض.
ملتاع ومحزون وساخر، يسير صويلح بين كلماته وسطوره، فتجلل التفاتاته الأدبية، غمامةً من البخور، والنذور، والأحاجي، والخرز الأزرق، والعقارب، وأصوات الذئاب، وطنين الذباب و... العجاج. العجاج الذي ما انفكّ يضغط بثقله ـــ الثقيل ـــ على الأنفاس حتى ليخال المرء نفسه أنّه يتنفس طيناً جافاً. حاول الروائي أن يوسّع دائرة العتب على دنيا لم تأخذ آمالنا وطموحاتنا في الاعتبار، وما انفكّت تنهال علينا بكلّ ما أوتيت من قسوة وصلف وحنين مرير ليس إلى ماضٍ مزدهر أو مشرق، كان قد ولى، وإنّما كعبق وجداني إنساني قد ولى أو يكاد: «لكنني كلّما ذهبت إلى الصحراء، ينتابني إحساس غامض بأنّ روحي ما تزال هائمة بين تلك الرمال، كأنّني لم أغادرها قط، أتفقّد أمكنة خطواتي الأولى، يتنازعني ثغاء أغنام، وعواء ذئاب، وخفق أجنحة قطا؛ ورائحة حليب، وطعم ماء غدران، وأرواح قتلى دُفنوا على عجل في قبور مجهولة أضاعتها الرمال».
لم تمرّ «سيأتيك الغزال» على المشهد التاريخي والسياسي مرور الكرام، بل اخترقه عضوياً وتأسيسياً بصفة واضحة. ألقى خليل صويلح الضوء على مراحل مفصلية، أخذت تؤرجح البلاد في كل الاتجاهات، ولما تزل ارتداداتها قائمة حتى اللحظة. كأنّه يقول في قرارة روحه، كم أُهملنا وهُمشنا وطُحنت أرواحنا، ولهذا السبب بالذات آلت الأمور إلى ما آلت اليه. والخوف كلُّ الخوف ألّا يأتي الغزال... لذلك فإنّ عيوننا وقلوبنا ستزداد عطشاً.
* ممثل سوري