القاهرة | خلال مسيرته، نال محمد وردي أكثر من لقب. لكن اللقب الذي يعتزّ به كان «فرعون أفريقيا» الذي منحه نشوة تليق بفنان كبير. المطرب السوداني الذي توفي أول من أمس عن 79 عاماً في الخرطوم، بقي طوال حياته ينظر إلى نفسه كملك متوَّج على عرش الغناء السوداني. السبب ليس فقط موهبته الاستثنائية، بل أيضاً انحيازه المبكر إلى الفقراء، فجعل الغناء راية للبحث عن العدل والجمال. لم ير وردي في لقب «الفنان اليساري» شعاراً ديماغوجياً بقدر ما عدّه مسؤولية تجعل خياراته كلها حماية لهذا اللقب، وتأكيداً لجدارة الانتماء إلى حزب شيوعي ضم إلى جواره مفكراً بحجم محمد إبراهيم نقد.
بدأ وردي حياته معلِّماً للموسيقى في مدارس السودان في الخمسينيات، ثم خاض نضالاً نقابياً دفاعاً عن حقوق المعلمين في بلاده، قبل أن يلتحق بالإذاعة ويعتمد كمطرب وملحّن من الفئة الأولى. يصعب الفصل بين انحيازاته السياسية وخياراته الجمالية. بنى خياراته الجمالية على النص الغنائي الجيد القادر على تقديم «أغنية بديلة» للغناء السوداني الشائع. وبنى نتاجه على تعاون ثنائي مع شاعرين متميزين هما إسماعيل حسن، ومحجوب شريف. وبفضل هذا التعاون، تجاوز فضاء الغناء السوداني المغلق على إيقاعاته الخماسية، وسعى مستعيناً بمحبة كبيرة للموسيقى المصرية إلى تضفير أعماله بنبرة شرقية، وإدخال القالب النوبي والأدوات الموسيقية النوبية في الفن السوداني مثل الطنبور.
وفي بلد عانى انقلابات سياسية عدة، حافظ وردي على موقعه النقدي. أيّد انقلاب الجنرال إبراهيم عبود عام 1958، لكنه قدم أعمالاً أخرى تخليداً لـ«ثورة أكتوبر» 1964 التي أطاحت حكمه. وعقب انقلاب الرئيس السابق جعفر نميري عام 1969، قدّم أناشيد تدعم نظام الحكم الجديد عندما كانت توجهاته اشتراكية. ثمّ عاد ليقدّم أعمالاً أخرى احتفالاً بسقوط حكمه في ثورة أبريل (نيسان) 1985. غادر وردي السودان عام 1989 عقب وصول الرئيس السوداني عمر البشير إلى السلطة ليمكث 13 عاماً في المنفى الاختياري، قضى غالبيتها في القاهرة التي نال فيها شهرة كبيرة قبل أن يصلها. وهنا نذكر أن محمد منير قدّم أغنتين لوردي هما «وسط الدايرة» (1987)، و«قلبي مساكن شعبية» (2000). لكن طبعاً لم يصل منير إلى مستوى أداء وردي الذي كان يعتمد على جماليات فريدة تقوم على تواصل حميم مع الجمهور إلى حد وصفه بـ«صوت البهجة». حتى إنّ أغنياته تحوّلت إلى مفردات للحياة اليومية السودانية أما حفلته في أديس بابا، فتؤكّد أن صوته بات صوتاً للثورة ولحبّ السودان، وخصوصاً عندما غنّى «بلدي يا حبوب، يا جلابية وتوب» . مات وردي فعلاً، تاركاً خلفه محبين يغنّون «أحلى فصول العمر حنانك».