مَن منّا لم تمثل الأغنية الفلسطينية في ذاكرته قصصاً عن البلد المحتل؟ من منا لم يتأثر بأغنيات النضال والتحرير والمقاومة؟ الأغنية الشعبية الفلسطينية التي رسمت تاريخ شعب وذاكرته، ما زالت تتجدد منذ النكبة في الداخل الفلسطيني ومخيمات الشتات. وبينما يملك كل شعب ملحمة أو أسطورة يستعيد من خلالها ذاكرة من سبقوه، اختار الفلسطينيون تناقل ذلك التراث عن طريق الأغنية الشعبية، التي انتقلت شفهياً على ألسن النساء والرجال، وأصبحت من المراجع التاريخية، إذ تعدّ هذه الأغنيات بمثابة تأريخ للقضية. لذا، وجب جمعها، وحفظها، وأرشفتها، ودراستها وتسجيلها على أسطوانات. هذا ما نقرأه في كتاب «الأغاني الشعبية الفلسطينية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــ 2012) الذي جمع مواده «مركز معلومات وإعلام المرأة الفلسطينية في قطاع غزة» بإشراف هدى حمودة وتقديمها.
الأغنيات التي ضمّها العمل، أرّخت لما حدث في البلاد من احتلال وقتل وتهجير، ومجّدت الثورة والفدائيين. الأغنية الفلسطينية الشعبية أصبحت اليوم مرادفة للمقاومة. هذه الملحمة الغنائية وثّقت أيضاً للعادات والتقاليد، ومجّدت الكفاح المسلح وخلّدت أسماء الشهداء والمقاومة، كما حفظت أسماء المدن والقرى التي هجّرها الاحتلال الإسرائيلي قبل 63 عاماً، هي عمر النكبة.
تنوعت الأغنيات في فصول الكتاب، وتوزعت بين «أغاني الأفراح وسهرات النساء وأغاني الرجال والأطفال وأغاني الحج، والزراعة، والأغاني الوطنية، والبكائيات، وأغاني البحر». بين الدبكة والرقصات الشعبية والدلعونا والجفرا والمشعل والعتابا والأوف والميجانا، برزت روح الشعب الحقيقية في هذا الموروث. هناك أغنيات للأفراح وأخرى للنواح. نقرأ أنّه عند خروج العروس من بيت أهلها، حين يحضر أهل العريس جماعات ليقفوا عند باب القرية أو المدينة، ويبدأوا بالغناء «ظليت أدور على الأجواد تلاقيهم/ لما رماني الهوى جوا علاليهم/ ظليت أدور على الأجواد تناسبهم/ لما رماني الهوى جوا مصاطبهم».
في الكثير من المناسبات، برز دور المرأة الفلسطينية في حفظ الأغنية الشعبية ونقلها من جيل إلى آخر. مثلاً في مقطع دلعونا، نقرأ «نزل في الدبكة الولد الشاطر/ وأخذ حشيشة قلبي بالخاطر/ نزل في الدبكة الولد يتلوى/ وأخذ حشيشة قلبي من جوا/ على دلعونا وعلى دلعونا/ من كلمة صغيرة أحبابي جفونا». وفي أغنية عتابا «أنا لأبعت تلفون فوق تلفون/ يا عيوني يا ناس من البكا والناس تلفوا/ ع اليوم يا أحباب لو انكو ع الدار تلفوا/ لأدهن البيبان وأبوهي الحيطانِ».
للرجل أيضاً دور في ذاكرة الأغنية الشعبية الفلسطينية. إنّه الفلاح، والتاجر، والمقاوم، والعاشق. يتغنى الرجال بالدحية والدلعونا التي يشتركون في غنائها مع النساء، وخصوصاً في رقصات الدبكة الشعبية. نقرأ «على دلعونا وعلى دلعونا/ ريحت بلادي زهر الليمونا/ على دلعونا على دلعونا/صلوا على النبي يا حاضرونا/يحرم عليّ ألبس والملبوس/ما دام حبيبي في الحبس محبوس». إذاً، نرى تنوعاً في مواضيع الأغنية الشعبية الفلسطينية والكثير من القصص الإنسانية، من أزمات وشجن وحنين للأرض، وانتصارات ومقاومة. في فصل «الأغنية الوطنية» واحدة لطالما سمعناها بأصوات الفلسطينيات عن الفدائي الشهيد وعودة البندقية لأهله: «طلت البارودة والسبع ما طل/ يا بوز البارودة بالندى مبتل/ طلت البارودة والسبع ما جاش/ يا بوز البارودة بالندى مرتش».
كما الكبار والغزليات وأغنيات البحر، للأطفال حصتهم من الغناء. وقديماً، كانت أغنيات الحج وزيارة النبي محمد تؤنس ليالي الفلسطينيين، وخصوصاً أثناء توديع الحجاج، ثم استقبالهم بعد عودتهم «حجاجي والله عطاهم/ ياريت أنا معاهم/حجاجي ولبيت الله». هذا إضافة إلى أغنيات البحر والبحارة والبعد عن الحبيبة «يا بنت ياللي هلا هيلي/ يا اللي على الشط هلا هيلي/ سكين يخرط هيلا هيلي/ والله نهودك هيلا هيلي/ ياللي قتلتي هيلا هيلي/ الشب الحليوة». إنّها الأغنية الشعبية الفلسطينية في كتاب، كأنها ترسم خارطة شعب يجري تناقلها شفهياً من جيل إلى جيل. تأتي هذه المحاولة في التوثيق لتحدّي الظلم والقهر ومحاولات المحتل لمحو هذه الذاكرة وتحكّمه في كل مفاصل الحياة الفلسطينية، من أرض وبناء وشجر وبشر، فلم يبقَ سوى الغناء. وحدها الأغنية تقف اليوم شاهدة على مسيرة ستطول حتى التحرير.