ما دام الدم الذي يُسفك دماً عربيّاً فلن يتحرّك لحَقْنه القادرون على حقنه. سينتظرون الرابح ليبايعوه. نحن قِطَع لحم تحت سواطير السياسات العظمى. الذاكرة سرعان ما تنسى في زحام سباق المصالح، وتصبح الجثث أرقاماً أقلّ تأثيراً من أرقام درجات الرطوبة. الدم العربي لا «يَلْعب» إلّا حيث هو نفط، والإنسان العربي لا قيمة له إلّا إذا كان ذا نفع للصهيونيّة ومستعمراتها الأميركيّة والأوروبيّة.ننوح على أنفسنا لأنفسنا. يهتف لنا الهتّافون على قَدْر موتنا. مَن يجب أن يسمع وأن يفعل يقول: فخّار يكسّر بعضو. من المحيط إلى الخليج نحن عنصريّون وطائفيّون ومذهبيّون. كنّا قبائل على الطبيعة وصرنا قبائل على الكهرباء، وحلّت الفضائيّات، في مجالات الفخر والهجاء والتحريض والرثاء، محلّ فطاحل الجاهليّة وفحول الإسلام.
ها هم العرب يَبْعثون أسوأ أساطيرهم.
وما زلنا في البداية.

■ ■ ■

أيام وتكتمل سنة على اندلاع الدم في سوريا.
فشلت كل دعوات التهدئة. وبوادر الإصلاح جاءت متأخرة.
لم يعد هناك لوقف حمّام الدم غير نشوب حرب عربيّة ـــــ إسرائيليّة. تَوَحّدَ العرب على إسرائيل في الماضي، فلمَ لا يتوحّدون في الحاضر؟ نكاد نقول «النجدة أيّتها الحرب الشاملة!» لولا خوفنا على لبنان. نتنياهو يهدّدنا بالزوال. رقبة نتنياهو هي «الرقبة الغليظة» التي سبّها أنبياء اليهود في التوراة. إسرائيل تعتبر أن إيران و«حزب الله» هما العرب ولبنان. امّحى العرب في نظرها ولم يعد هناك إلّا «حزب الله» وفي جيبه لبنان وإيران ومعها الإسلام و... العروبة!
الحرب مع إسرائيل مفيدة في هذا الظرف لولا تركيز إسرائيل على لبنان. حربها على العرب، كما في 1967 أو 1973، ستوقف مذابحهم الأهليّة ولو سحابة أخْذ نَفَس.
لكن إسرائيل ليست جمعيّة خيريّة. لم تعد تريد أن توحّدنا.
ليتنا نحوّل دماءنا المهدورة إلى حياة. لو تقتنع السلطة في سوريا أن الفقراء والمساكين الذين يموتون قتلاً هم بَشَر لا مؤامرة، وتقتنع المعارضة أن الاستشهاد إذا لم يثمر في وقته ـــــ وقته ليس إلى الأبد ـــــ يتحوّل إلى موتٍ مجاني، وخاصة أن قيادته آمنة في المهاجر. لو يقتنع الفريقان أنّهما يغرقان معاً في حربٍ أهليّة. لو يقتنع العرب المتفرّجون والمحرّضون والمتشفّون أن تقسيم سوريا تفجير لهم بأسرهم فلا يبقى حجرٌ على حجر ولا أخٌ لأخيه ولا نفط لأصحابه ولا غاز لقَطَر. لو...
أم أنّ أحداً لا يملك إرادته؟

■ ■ ■

الاستجارة بالأعظم لتدارك أعظم آخر؟ مثل حِيَل الطبّ الصيني: افتعال ألمٍ للتخفيف من ألمٍ آخر أو حتّى لشفائه. إلى هذا الحدّ بلغ اليأس. دستورٌ سوريّ جديد يرى النور وفيه إصلاحات جديّة (توازنت مع مادة ثالثة رجعيّة تنص على دين رئيس الدولة، وهي لطخة في تاريخ سوريا العلماني الناصع، ولن تنفع حيث أراد منها واضعوها النفع، أي استرضاء الإسلاميّين) دستورٌ جديد لو وُضع بعد شهر من اشتعال الثورة لتوقّف سفك الدم، لكنّه يأتي كالعادة متأخّراً ونتاجاً لماكينة بطيئة صدئة ما زالت تتحرّك وفق الأسلوب السوفياتي السلحفاتي الذي تجاوزه الزمن في عزّ الصبا، فكيف به في العصر الإلكتروني ورصد المجرّات المجهولة والسباق الرائع مع الخيال.
ما الحلّ؟ «النأي بالنفس»؟ اختراعٌ عبقريّ: اسمٌ جديد لمذهب بيلاطس البنطي. كان أحرى باللبنانيّين أن يكتشفوه عند تأسيس الكيان وينزلوه في الدستور. سويسرا الشرق. سويسرا التهرّب. سويسرا الخوف من سوريا لا الخوف على سوريا. سويسرا التحريض في الوقت غير المناسب والطأطأة في الوقت غير المناسب. سويسرا إلغاء الذات. لم يعد للبنان سياسة عربيّة ولا دوليّة. وزير خارجيّة الاختفاء. مجلس نوّاب رئيسه. حكومة تهشيل أفضل وزرائها. رئيس جمهوريّة... رئيس جمهوريّة؟
ليس نأياً بالنفس بل هو الاضمحلال. كان على لبنان أن يضطلع بدوره في درء المذبحة السوريّة، دوره المكتوب على جبينه. ولا واحدة من الدول العربيّة مؤهّلة أكثر منه لدور الوسيط المُصْلح. الوسيط بين الأطراف السوريّين والوسيط بين السلطة السوريّة والمحافل العربيّة والأجنبيّة. لكن لبنان آثر الاختباء وراء بيلاطس البنطي. مع فرق هو أن بيلاطس غسل يديه من دم المسيح، ولبنان يغسل يديه من مصير شقيقته وفي الوقت ذاته من مصيره الذاتي ومن مصائر العرب أجمعين.
لكننا نهذي إذ نحلم بمسؤولين تاريخيّين. لا وجود لهم بل لا وجود لأقلّ القليل من هذا الحلم: لا وجود لسياسة لبنانيّة داخليّة. لا وجود لمَن يحاسب الحرامي والنصّاب وشاهد الزور والمغتصِب، فكيف بحامل الدور التاريخي؟ لا وجود لمَن يشعر بشدائد الناس، بالحال المعدمة لمئات ألوف الناس، بفقدان الضمير، بعهر تبادل الخدمات الفرديّة على حساب المال العام، الرأي العام، المصلحة العامّة، بسقوط الحياء تحت الزفت وفي أودية الجنون وتحت أقدام الوقاحة والاستغباء وشراهة الضباع، لا وجود لأخلاق سياسيّة في حدّها الأدنى، فكيف نطالب بدورٍ تاريخيّ ينتشل المنطقة من الغرق؟

■ ■ ■

عند كتابة هذه السطور نبأ عن سقوط 65 قتيلاً في العراق. 50 في سوريا. بابا عمرو. شعوب للذبح. مئة ألف شهيد في حرب لبنان «الأهليّة». لا أحد يحصي شهداء ليبيا. الجزائر. اليمن. ما أنتم أيّها العرب؟ حطب؟ أرقام؟ ألأنّكم طيّبون بسطاء تُستباحون؟ أتقياؤكم طيّبون وكفّاركم طيّبون، فلماذا تُقْتَلون؟ هذه الدمويّة المتوحّشة من أين؟ كنتم تقولون المغول، أين هم المغول اليوم؟ كنتم تقولون المماليك، أين هم المماليك؟ كنتم تقولون الروم، أين هم الروم؟ واليهود؟ والاستعمار؟ مَن يقتلكم، مَن يُعمي أبصاركم أيّها العرب الطيّبون؟

■ ■ ■

بالأمس صبيّتان من آل كسرواني، نويل وميشال، نزلتا إلى ساحة الشهداء على جَمَلين. أحلى حَدَث شهدته بيروت منذ سنين. عافاكما الله أيّتها الصبيّتان. ليتنا نعود إلى الدابّة والجمل، إلى العرزال وقنديل الكاز، وتجفّ آبارُ النفط ومنابع الغاز وتتلاشى «مناطقنا الاستراتيجيّة»! ليتنا نعلن تخلّفنا ونعود إلى الصحراء، إلى الجلّ والبريّة والجرّة، إلى الواحة والجراد، إلى التمر والناقة، إلى الصاج والتنّور، إلى المطاحن والمعاصر، إلى الزَّجَل والبَرَكة، ليتنا نعلن تخلّفنا ونُشهر بدائيّتنا ونحلّ مؤسّساتنا العقيمة وجمعياتنا العاجزة وحكوماتنا المحنّطة وهويّاتنا المجرمة.
حياةٌ أو موت؟ موت موت. ما يجري في سوريا منذ سنة موت. ما يحصل في العراق منذ سنوات موت. صعودُ الأصوليّة موت، ومقاومة أخصامها موت. لا فرق بين المتقاتلين إلّا نوعيّة السلاح والقدرة الإعلاميّة. نحن أمام مشهد لا يصارع فيه الماضي المستقبل، بل كلاهما ماضٍ، واحدٌ على العرش وآخر في الخندق. صراع طغيانَين: طغيان السلطة وطغيان المجهول. لذلك ننحاز إلى الضحايا. الضحايا هم القتلى أيّاً كانوا. هم الخائفون أيّاً كانوا. هم المهدَّدون أيّاً كانوا. القتلى هم دائماً ضعفاء حتّى لو كانوا ملوكاً ورؤساء. حتّى لو كانوا جلّادين. القاتل وَجَد أَقْتَلَ منه، لذلك أصبح ضحيّة. صدّام حسين في جحره ثم في مقتله، ضحيّة. القذّافي في انذباحه ضحيّة. أهالي حمص وحماه وريف دمشق وإدلب ودير الزور ضحايا، وجنود الجيش النظامي القتلى ضحايا. نحن مع الضحايا. نحن ضدّ كلّ مَن يأمر بالقتل، وضدّ كلّ مَن يموّل القتل. نحن مع مَن يقرّر التضحية لإنقاذ ضحيّة. مَن يقرّر الانتصار على نفسه لا على خصمه.
أم أنّ أحداً لا يملك خياره؟

■ ■ ■

قدّمنا جميع القرائن على كوننا طوائف ومذاهب جاهزة للتذابح. سنّة وشيعة، سنّة وسنّة، شيعة وشيعة. مسيحيّون ومسيحيّون. موارنة وموارنة تحديداً. لقد نجحت إسرائيل. وطبعاً أميركا وأصدقاؤنا الأوروبيّون. أعادونا إلى أغبى الغرائز. أيقظوا فينا الوحوش.
لم يعد لنا ملاذ غير التمييز بين وحوشٍ في أنفسنا ووحوش. أصبح أفضل المخارج أن نلجأ (هل ما زال ذلك ممكناً؟) إلى الوحوش الطيّبة فينا، أن ننبشها ونُحْييها، تلك الرواسب الكريمة الشفّافة، جذور الشهامة والسذاجة، وحوش الشرف العشائري والأخلاق القَبَليّة.
كانت هذه مَهَتَّة وأصبحت مطلباً.
الأَمام هاوية... لنعد إلى الوراء!
... لكنّه عَبَث... نحن في وضعٍ انتقاليّ نجهل من أين إلى أين. الواضح الوحيد هو المجهول.
وأفظع ما يَتهدّدنا هو أن نترحّم غداً على البارحة.