القدس المحتلة لم تكن سلمى الخضراء الجيوسي تحتاج إلى أكثر من دردشة في ردهة فندق مع صحافي مستعجل لصنع سبق، حتى نشهد فصلاً من تهافت الإعلام الثقافي العربي. الدردشة تحوّلت إلى حوار نُشر في ملحق «شرفات». وليس صعباً تبيّن أن آراء الجيوسي نُقلت بشيء من السطحية مع بعض الآراء التي لا يمكن أن تصدر عنها. وسرعان ما اختصر «الحوار» إلى خبر صغير وزعته وكالة ألمانية بعنوان ديماغوجي: «أنا أعطيت نجيب محفوظ «نوبل»، لكنه ليس روائياً عظيماً». وتناقلت الخبر مئات المواقع والجرائد وسرعان ما انهالت التعليقات! ولأن الخبر مصوغ بنحو مستفز ومتبجح، فنوعية التعليقات جاءت كأنّما تذكّر بالمناخ «الإعلامي» المسموم للمباراة الكروية المشؤومة بين مصر والجزائر أواخر 2009.
صار ما نسب بطريقة فجة من تصريحات على لسان الأديبة النهضوية كأنه خلاصة نصف قرن من إنتاجها الأدبي والنقدي والتحريري، ولم يخطر لأحد التساؤل عن دقة التصريحات. وبينما مرت بعض أعمالها الموسوعية مثل «المدينة في العالم الإسلامي» (منشورات بريل 2008) و«حقوق الإنسان في الفكر العربي» (بريل 2002 ـــــ صدرت ترجمته العربية عن «مركز دراسات الوحدة العربية» عام 2010) بلا ضجيج في الصفحات الثقافية العربية؛ فإنّ الضجيج كلّه كان من نصيب قصة منقولة بنحو سطحي بقصد الإثارة. وما نخشاه أن تكون الشائعة والنميمة والفضيحة والغرائزية هي السائدة في الثقافة العربية اليوم، على افتراض أن الصحافيين وكتاب الأدب هم فعلاً ممثلو هذه الثقافة.
ومن دون إعارة أدنى اهتمام لما قدمته للثقافة العربية المعاصرة كتابة ونقداً ومشاريع على مدار ستة عقود وعشرات آلاف الصفحات بالإنكليزية عن الحضارة العربية الإسلامية وآدابها، تجد صاحبة «العودة من النبع الحالم» (1960) نفسها في مواجهة ردود سطحية وفظة. وهو شيء لم يخطر في بال شاعرة ومثقفة رائدة اعتادت إنجاز مشاريع كبيرة بعيداً عن الأضواء، وما زالت تتصدى لمشاريع ذات طابع مؤسساتي بمفردها في عمر يؤثر آخرون الراحة فيه.
للأسف انجرّ لـ«الدفاع عن محفوظ» كتاب مصريون لهم مكانتهم كجمال الغيطاني ويوسف القعيد، وآخرون بالغوا في عصبيتهم كأن ثقافتهم تتعرض لهجمة صهيونية. وفي هذا السياق، لنا عتب على ما نشرته «الأخبار» السبت الماضي
لعل عقدة «نوبل» (التي تكثّف عقد نقص كثيرة نحو الغرب) هي أحد أسباب إشعال هذا الصخب. قصة الجيوسي مع لجنة «نوبل» هامشية في حياتها رغم ما تمخضت عنه هذه العلاقة. الثابت تاريخياً أن لجنة «نوبل» استعانت بالجيوسي منذ 1985 في معرفة خريطة الأدب العربي وتقويم نتاج بعض مرشحي الجائزة من العرب. الناقدة العربية المرموقة التي كتبت بعض مؤلفاتها النقدية بالإنكليزية أصبحت حينها اسماً معروفاً في الأكاديميا الغربية في ما يتعلق بالأدب العربي ونقده وترجمته. وفي عام 1988، أُعلن فوز محفوظ ودعيت الجيوسي إلى حفل تسليم الجائزة في استوكهولم لكونها المستشارة التي اعتمدت عليها اللجنة في تعاملها مع الأدب العربي. أرسل محفوظ ابنتيه نيابة عنه وقرأ محمد سلماوي كلمته. وهي كلمة يمكن الرجوع إليها لقراءة وعي محفوظ السياسي. فإن كان يعجبك ما فيها من تواضع وعمق وجودي، فسيروّعك إهماله التام للواقعة الاستعمارية وتسليمه بمفاهيم المركزية الغربية. بالطبع، فالدور الذي أدته الجيوسي في انتزاع الجائزة لكاتب عربي تُضاف إليه مجموعة عوامل أخرى تخص إنتاج محفوظ ومواقفه السياسية «المعتدلة» ودوره الريادي في الرواية العربية. وهو الدور الذي كتبت عنه الجيوسي بحماسة وتقدير في سبع صفحات من مقدمتها لأنطولوجيا «القصة العربية الحديثة» (دار جامعة كولمبيا ـــــ 2005). ولعل من الوثائق الطريفة ما رواه الكاتب والناشر خالد النجار في كتابه «غبار القارات» (دار السويدي 2007) عن زيارته للقاهرة في زمن «الانفتاح الساداتي» وكيف أخذ موعداً مع محفوظ في مكتبه في «الأهرام» لإجراء لقاء صحافي قبل سنوات من «نوبل». وحين وصل النجار إلى الموعد، وجد محفوظ قد ألغاه ليستقبل بدلاً من النجار وفداً من الطلبة الإسرائيليين. وجد النجار نفسه في مكتب محفوظ ضيفاً غير مرغوب به في حضرة ضيوف أكثر أهمية من الصعلوك الشاب الآتي من تونس. بالطبع لا يرغب أحد في النيل من محفوظ. كل ما هو مطلوب بعض الحرية لفهم تاريخنا الثقافي بعيداً عن المناخ الأصولي المتفشي في الثقافة العربية، وفي المقدمة أصولية الحداثيين والليبراليين ودعاة التنوير؛ إذ يشعر المرء بأنه لا يستطيع أن يقول شيئاً جوهرياً من دون أن يصطدم بسلطة أو عشيرة او مسدس.
في هذا المناخ الغرائزي الذي يسود منطقتنا العربية، مناخ الفرز المذهبي والعصبيات وتفتيت المجتمعات، مناخ تحالف الاستبداد والاستعمار وصراعاتهما على مساحة الحياة العربية، مناخ إعلامي نشعر فيه بفداحة تراجع أشكال القيم الإنسانية، لا بد من أننا جميعاً الآن نثرثر فوق النيل!



مشاريع جديدة

تعمل سلمى الخضراء الجيوسي حالياً على ثلاثة كتب تجمع بين البحث العلمي والتنوع الموضوعي. الأول يتناول «الحديقة الإسلامية»، والثاني يستكشف الحضارة العربية الإسلامية في البرتغال، والثالث عن الحضارة العربية الإسلامية في صقلية.