يسبقنا فن محمد الرواس بمسافة واضحة. تُدهشنا أعماله، لكنها لا تسلِّمنا مكوناتها ومعانيها دفعة واحدة. هناك خلطة سرية في شغل الرسام اللبناني الذي يقف على حدة في خريطة التشكيل اللبنانية والعربية. خلطة تجعل لوحته تأليفاً بصرياً وذهنياً أكثر من كونها ممارسة لونية. الألوان شحيحة على أي حال، مقابل سخاءٍ واسع في استخدام وسائط وعناصر لا تنتمي إلى معجم اللوحة التقليدية. هكذا، تستقبل لوحته، أو لنقلْ نصّه البصري، أخشاباً وجفصيناً ومعادن وبراغي وصوراً فوتوغرافية وكتاباتٍ عربية وانكليزية.
تتخلى اللوحة عن سطحها الأملس لصالح سطوحٍ خشنة ونافرة، وتتحول إلى مسرح صغير متعدد الأبعاد والمستويات، يخضع فيه المشاهد لبراعة الفنان في توليف هذه العناصر وتحديد أدوارها بدقة داخل الانطباع الكلي الذي تبثّه اللوحة. قيل عن ذلك إنه «تجميع» و«إلصاق» و«توليف»، و«سريالية بصرية». صفاتٌ نجحت في مقاربة عوالم الرواس ومناخاته، إلا أنها لم تنجح في اختزال فنه. لا يعتبر الرواس نفسه ملوِّناً. فعل ذلك في بداياته المبكرة، قبل أن يكتشف ضجره من انطباعية اللون والخط، وشغفه بالتأليف والتقنيات. شغفٌ جعله يميل إلى التعبيرية التجريدية الأميركية على حساب المدرسة الباريسية، ويُفتَتن بأعمال أرشيل غوركي، وروبرت روشنبرغ، وفناني البوب آرت الذين أفسدوا الصفاء التاريخي للوحة، وجعلوها فضاءً يستجيب لممارسات وفنون الحياة المعاصرة.
ولد محمد الرواس في بيروت (1951). لا يتذكر من طفولته سوى أنه كان يرسم. حصة الرسم كانت الأحب إليه في المدرسة، بينما والده الملحن والمؤلف الموسيقي يشجّعه في البيت. في دراسته المتوسطة، كان محظوظاً بالتتلمذ على يد منير عيدو أحد المعلمين الكبار في المحترف اللبناني. قضى سنة يتيمة في دراسة الأدب الانكليزي في الجامعة، قبل أن يكتشف أن الرسم لن يكون مجرد هواية. انتسب إلى معهد الفنون أوائل السبعينيات. وحظي مجدداً بأساتذة كبار مثل: إيفيت أشقر، وحليم جرداق، ورشيد وهبي، وأمين الباشا.
نال المرتبة الأولى في سنوات الدراسة الأربع. تخرُّجه تزامن مع اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975. الحرب أشعرته بأن مناخات الحرية والانفتاح كانت خدعة. «كانت الحرب صدمة قوية. صرت أسأل نفسي: ماذا أرسم؟ ماذا يعمل الفن؟ وما هي وظيفته؟». أسئلةٌ أطالت حيرته وأوقفته عن الرسم سنتين كاملتين. سافر إلى المغرب للعمل أستاذاً للرسم. «بعيداً عن بيروت المتفجرة، رحتُ أراقب الحالة وأفهمها بمنأى عن الحدث المباشر، ووجدت نفسي أرسم مجدداً، لكن مع تغير كامل عن شغلي السابق».
أول لوحة رسمها حملت عنوان «الحرية»، ولا يزال يحتفظ بها معلقةً مع لوحات أخرى من الفترة نفسها في صالون شقته. كأن الحرب أكدت صواب هواجسه الفنية. لم يعد ممكناً أن تكون اللوحة نوعاً من الـ«كاندي آرت» أو صورة لطموحاته الفنية فقط، بل صارت تعبيراً معقداً عن الحياة اليومية والواقع الذي يعيشه. صارت اللوحة، أو النص البصري، بحسب تعبيره «أقل ألواناً وانفعالاً، وأكثر عقلانية وانضباطاً في الصياغة، وباتت الصورة جزءاً أساسياً فيه».
هذه الصفات حضرت في معرضه الأول الذي استُقبل بحفاوة من قبل النقاد والجمهور. كان ذلك إشارة إلى أنه اهتدى إلى المزاج أو المعادلة التي ستخضع لتطورات متلاحقة في أعماله التالية. معادلة جعلت انتقاله إلى التقنيات الطباعية أمراً طبيعياً ومحتوماً. هكذا، لم يتردد في اختيار دراسة الغرافيك في لندن، بناءً على منحة الماستر التي حصل عليها عقب تخرجه، وأجّلت الحرب استفادتها منه. هناك، انغمس كلياً في المناخات التي بدأ الرسم بها في بيروت. «كنت أقضي يومي كله في الجامعة، وأزور المتاحف والغاليريات في العطل. أنجزت أعمالاً جديدة تكثّفت فيها العناصر الفوتوغرافية والطباعية. صرتُ أستخدم تقنيات عدة في اللوحة الواحدة. ليتوغرافيا متجاورة مع طباعة حريرية وصور فوتوغرافية». في الأثناء، عرض أعماله الجديدة في معارض مشتركة في بريطانيا ولبنان، وعاد ليعمل أستاذاً في المعهد الذي تخرّج فيه، ثم أستاذاً لمادة الغرافيك لطلاب العمارة في الجامعة الأميركية في بيروت.
في شقته البيروتية الواسعة التي تضم محترفه أيضاً، لا نشمّ رائحة ألوان وخلائط سائلة. ما نراه أقرب إلى مشغل نظيف ومنظم. يُرينا عملاً غير مكتمل، وحوله معدّات صغيرة وقطع خشبية ومطبوعات ورقية. يقول إنه يقضي شهرين أو ثلاثة في إنجاز لوحة واحدة. «أنا متطلب جداً. لا أضيف شيئاً إلا بعد استنفاد كل الاحتمالات غير الصحيحة. أعتني بالمذاق البصري للعمل بمقدار عنايتي بفكرته الذهنية».
يتحيّز الرواس للتركيب والخلط والتنويع. تطالبنا لوحاته بتأمل أطول مما نبذله أمام اللوحات العادية. يصلنا جمالها وذكاؤها أولاً، ونتأخر في تخمين معادلاتها الحسابية والفنية الدقيقة. نحس أحياناً بأننا نشاهد حلماً مبرمجاً أو خيالاً علمياً، ولكن لا تغيب الشاعرية عنه. هناك نوع من الإعجاز في خلق ألفةٍ جذابة ومدهشة باستعمال مواد وتقنيات تبدو متباعدة ومتناقضة. قد يستعير تفاصيل أو رموزاً من لوحات فنانين سابقين أو من قصص مصورة، ويمنحها أدوراً مختلفة في سيناريو لوحته.
في معرضه الأخير «إجلس أرجوك»، أضاف الفيديو إلى عمله. يعترف الرواس بأن لوحته قد لا تصل إلى الجمهور العريض. يفكّر جدياً بوضع نبذة إلى جانب لوحته أثناء عرضها. طريقته في العمل تجعله مقلّاً. إلى جانب مشاركات جماعية عديدة، أقام الرواس عشرة معارض فردية فقط. «المعرض ليس هدفاً، بل نتيجة لتراكم نوعي. لا أهتم للكمية والعدد. المهم أن أكون راضياً عن الأعمال التي أنجزها». يستسيغ فكرة أنه رسم لوحة واحدة طوال تجربته، ويقول إن أعماله تمثل مساراً مستمراً تمّ تطويره بنقلات أسلوبية داخل مزاج واحد. لا تبدو الهوية مسألة صريحة في لوحاته التي يمكن نسبها بسهولة إلى هوياتٍ أجنبية. المزيج البصري في أعماله يُترجم مزيجاً في الهوية أيضاً. يتذكر معرضه في «غاليري الكوفة» في لندن (1990). «قال لي صاحبها محمد مكية إنه يعرض أعمالاً عربية عادة، وراح يلوم المديرة التي اتفقت مع فنان لبناني ولكنه يرسم أعمالاً أميركية!؟».
قبل عامين، ترك الرواس التدريس. بات متفرغاً أكثر لإنجاز أعماله. أصدرت «دار الساقي» مونوغرافاً عن تجربته بعنوان The Art Of Rawas، ووقع كتاباً مشتركاً بعنوان Faiseur De Réalités (صانع الوقائع) ضمّ أعمالاً له وقصائد بالفرنسية للشاعر أنطوان بولاد.
يقضي الرواس معظم وقته في المحترف. يتحدث عن «عنفٍ يُمارس عليه في شوارع بيروت المكتظة برموز ٍتصنع غيتوات جماعية وتلغي فرديته». الحديث عن العنف يأخذنا إلى الثورات العربية. معرض الخريف الأخير ضمَّ عملاً له بعنوان «سقوط النظام»، لكنه ليس متفائلاً بما يحدث، ويتساءل: «ما قيمة التغيير إذا كان التزمّت بديلاً للديكتاتورية؟»



5 تواريخ

1951
الولادة في بيروت

1975
تخرج في معهد الفنون الجميلة مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية

1979
معرضه الأول
في بيروت

2004
صدور كتاب عن تجربته بعنوان «فنّ الرواس» (The Art Of Rawas ــــ دار الساقي)

2012
شارك بعملين في «معرض الخريف السنوي» أحدهما عن الثورات العربية بعنوان «سقوط النظام»