«هبت السّت واقفة، فزفّها تصفيق وصياح. توارى اللحن خجولاً، تلاشت الكحة والنحنحات من الصدور، حضر جلال الصوت: رجعوني عينيك لأيّامي اللي راحوا. أما هي عندما رأته اليوم، فرجعوها عينيه لشبرا، لشارع دميانة». في مجموعته القصصية الأولى «سينما قصر النيل» (ميريت/ القاهرة)، يفتتح محمد فاروق كتابه بانسحاب إلى زمن الأبيض والأسود. في القصة التي منحت عنوانها للمجموعة، نرى مصر الستينيات، كأننا نرقبها عبر شريطٍ قديم. «جنينة الأسماك، قبلة، امرأة عجوز تضرب الودع تشوف البخت، كوبري الجامعة، جروبي، شارع سليمان باشا، الآمريكيين، سينما ريفولي، صراع في الوادي، عمر الشريف، فاتن حمامة ـــ اقتلني يا سليم ـــ بحبك يا بطاطس». لقطات حياة كاملة تمر في خاطر امرأة وقفت ترقب خيانة زوجها من دون أن تتكلم.
وأين؟ في حفلة أم كلثوم التي غنت فيها «إنت عمري» لعبد الوهاب بأمر من عبد الناصر.
المرأة لا يهمها كلّ ذلك. وجدت لدى زوجها تذكرتين للحفلة، لكنه لم يدعها إليها. صمت العالم ليسمع «الست»، وتسللت المرأة بتذكرة وحيدة إلى المقاعد الخلفية، تُنقِّل عينها بين وجنتي القصبجي الجاحظتين، وذراعي زوجها يحتضنان عشيقةً سريّة صارت زوجة سريّة. هل تصرخ وتفسد حفلة «الست»؟
يلعب المؤلّف الشاب في مساحة محسوبة بين الحكي الخالص والذهنية، مُجيداً مهارات المونتاج والتقاطع بين الأزمنة، فلا تفلت خيوطه إلّا قليلاً. نرى تجربةً خفيفة الظلّ في قصة «القضية الفلسطينية»، حيث تحكي امرأة مشكلتها المستعصية. «قبل أن تتهمني بالجنون تفضل بطاقتي، مدوّن بها اسمي الحقيقي. اقرأ، نعم، لا تفرك عينيك، هذا هو اسمي الذي تقرأه: القضية الفلسطينية عبد الفتاح شكري»! يقف الاسم عائقاً أمام زواج الشخصية التي هي «امرأة تريد أبسط حقوقها: أن تعيش بشكل طبيعي، هل فهمت يا مصطفى؟ أنا أحدثك عن مشكلة إنسانية ـــ عن نفسي ـــ عن القضية الفلسطينية الجالسة أمامك». هي حكاية يسهل جداً أن تقع في أحد فخين، المباشرة أو التظرّف، لكن المؤلف ينجو بها، رغم أنّه لا يكفّ عن خلق المفارقات. «انتهزتُ فرصة الحرب على غزة لأفتح الموضوع». كانت قد خبّأت عن حبيبها الجديد اسمها الحقيقي بعد خبرات سيئة. يتركها بعضهم، ويحاول بعضهم إقناعها بتغيير اسمها. «القضية مش في الإسم، لا بد أن تفكري بشكل برغماتي وعقلاني». لكنّها ترفض ذلك لأنها «جميلة كما ترى، ومتعلّمة، وبنت ناس طيبين (...) سامحه الله أبي، قال إنّه أسماني بهذا الاسم، لأنه يريد أن تكون القضية الفلسطينية حية في الوجدان! طيب كيف ذاك، وكلنا سنموت يا مصطفى؟».
عبر 13 قصة، يتنقل فاروق بين عوالم متعددة ربما بطموح العمل الأول. في قصة «ا..مـ ..ر..أ..ة»، يرسم عالماً أسطورياً يستلهم قصّة الخلق التوراتية، مستكملاً صراع الأنثى والذكر... لكنّه يصغر العالم أكثر إزاء كفاح حيوان منوي يحاول الوصول في «ميم ونون». وينتقل من عالم المخلوقات إلى المصنوعات في «رجل الإسفنج وعروس الحلوى»، مستخدماً طقوس الحلويات الفولكلورية المصرية. ثمّ يقفز إلى عام 2157 الذي تدور فيه قصة «الرجل الذي أحب عازفة كمان في جنازته». إنّها مجموعة قصصية يقتسمها الموت والابتسام، لهذا يود الراوي في قصة «بستان» أن يخرج «خارج هذا البستان، لأطرح على الموت سؤالاً آخر: ما الضحك؟».