على طاولة خلف باب المقهى، يختار غسان سلهب الجلوس بعيداً عن الأنظار. «تلك الأماكن التي نرتادها يومياً، وبانتظام، ترى هل ستحتفظ بذكرى، أو بأثر منّا لاحقاً؟ يسأل نفسه». يقرأ في كتاب، أو يكتب على دفتره أو على كومبيوتره، واضعاً سماعات في أذنيه. نلتقيه في المقهى نفسه الذي سيوقّع فيه كتابه عند السادسة من مساء اليوم. إنّه أوّل كتاب يصدره، بعنوان «من كتاب الغرق» هو الذي لا يتوقّف عن الكتابة.
فيه يدوّن السينمائي اللبناني خواطره وأفكاره. كتبه باللغة الفرنسيّة، وترجمته ليلى الخطيب توما إلى العربيّة، وصدر أخيراً عن «دار آمار» Amers. «إنه لوسواس فريد من نوعه ذاك الذي يتحكّم بالناس الذين لم يعد لديهم ما يقولونه. وربما لم يكن لديهم في أي يوم من الأيّام ما يقولونه عن أي شيء، لكنهم يصرّون، يقول في نفسه».
«لديه هذه المتعة في الكتابة لأجل الكتابة، نوع من موعد شبه يومي يحدّده لنفسه». ينسى كلَّ شيء حوله، ويعود إلى الكتابة من جديد. خواطر يسجلها على دفتره الأسود، أو يستكمل تفاصيل مشهد سينمائيّ في فيلمه الجديد. يكتب صاحب «أطلال»: «لماذا الكلمات؟ يسأل نفسه. ألأنّ الكلمات هي أقلّ الأوجاع؟».
في جلسته المعتادة في ذلك المقهى، يرفع غسان رأسه لينادي النادلة، ومن دون أن تنتظر سماع طلبه، تأتيه به. ذاك المقهى البيروتي مقصود خلال النهار من عدد من الفنانين أو العاملين في مجال الفن، إلى درجة صار معظمهم من سكّانه. يلتقون من دون موعد، يتشاركون الأحاديث والهموم. «يقول في نفسه إنه سوف ينغلق على ذاته فلا يعود يرى أو يسمع أحداً، ينعزل». ينجز السينمائي اللبناني في «من كتاب الغرق» عملاً أقرب إلى مخطوطة غير منجزة. تجميع من دفاتر كتب عليها خواطر كثيرة، كتلك الشخصيّة السوداوية الوحيدة في شريطه الأخير «الجبل». نصّه شاعريّ، تماماً كأعماله السينمائيّة، كأنّه نشيد صخب داخلي، صبّ فيه صبره، وقلقه، وهواجسه الحياتيّة، ولحوار داخلي، نلاحظه عندما يكتب «يكرّر لنفسه»، و«يطمئن ذاته»، و«يدوّن أن»...
في ذلك المقهى البيروتي، يكتب، وينتظر. يعود فينظر إلى ساعته، ليتفقَّد الوقت، وينتظر عودة الكهرباء. «مع هذا يجد أنّ الأشياء تجري إما بكثير من البطء، وإما بكثير من السرعة، وأنّها أحياناً لا تعود تجري بتاتاً». يضع السماعات في أذنيه من جديد ويستمع إلى جون كايدج. بعيداً عن بيروت، قرّر أن يكتب فيلمه الجديد. «من المؤكد أنّ الحياة الحقيقية هي في مكان آخر، لكن: أين نحن إذاً؟ يسأل بقلق». كان قد سافر إلى مرسيليا أخيراً ليتفرّغ للكتابة. أراد أن يبتعد لفترة عن كلّ شيء، عن الناس، عن بيته، عن جسده في بيروت، وعن أفكاره. «عليه فقط أن يستعيد النغمة الداخليّة، لأنّ الموضوع بِرُمّته لا يتعدى ذلك، أي الإيقاع، يُطمئن نفسه».
الآن عادت الكهرباء، وأصبح بإمكانه العودة إلى البيت. يسكن هنا، قرب المقهى، على بعد أمتار. يحزم أمتعته ويمضي. «إلى السماء يرفع عينيه، إلى الأرض ينذر جلجلته، وبلا طائل يسلّم أمره إلى أخيه الإنسان، ويتمنع عنه». من نافذته يرقب المساحة وحيداً. الرطوبة في شقته تزعجه، وخصوصاً في الليل، فيعجز عن النوم. «حالة وعي دائمة، وعيٌ يعي نفسه بلا كلل. وعيٌ لم يعد يعرف ماذا يفعل بذاته». يحاول أن يغمض عينيه من دون جدوى. تعود الكلمات والصور والأفكار لتشغل باله. «ماذا؟ يسأل منتفضاً، هل سيكون الليل، الليل العميق والمؤرّق، رفيقي إلى الأبد؟ والأرق، عشقي الوحيد والدائم؟». ليل طويل، لن يغادره قبل أولى إشارات الصباح. ويبقى قلبه الضعيف سلاحه الوحيد. هناك رغم آلامه، يعلم أنّه ما زال يستطيع متابعة المراهنة على الحياة. «عندما نقع في الغرام (نحِبّ ونحَبّ)، نفكر أنّ ما من شيء خطر سوف يصيبنا، هكذا يفكّر». ثمّ يغمض عينيه...



6:00 مساء اليوم ــــ Bread Republic (الحمرا/ بيروت). للاستعلام: 03/802444