لم تكن قوة الإمبراطوريات أبداً في قوتها العسكرية الضاربة أو في تقدمها النوعي في تكنولوجيا الحروب وإن كانت هذه أدوات تأسيس لا بد منها لقيام الإمبراطورية. ما حدث عبر التاريخ - وما يحدث اليوم في المنظومة الأميركية - أنّ المشروع لحظة ولادته فعلياً على الأرض، لا يلبث أن يأخذ مسار حياة أخرى مستقلة بذاتها تكاد تكون أهم وأخطر من المشروع التأسيسي ذاته، كفكرة وتصور في عقول وقلوب الشعوب. مرحلة تتحول فيها مصادر القوة الناعمة إلى ترسانة الهيمنة الأولى وسلاحها الأمضى في حين تتراجع أدوات التأسيس العسكري والتكنولوجي لتلعب دور المساندة والدعم والحماية لا أكثر.
مناسبة استدعاء هذا التصور عن الإمبراطوريات هو فورة الحماس الهائل التي نجحت هوليوود (من خلال شركة HBO) في استثارتها تحضيراً للإصدار الأحدث (الموسم السادس ــ يبدأ عرضه في نيسان أبريل) من مسلسل الفانتازيا الأهم في تاريخ الدراما التلفزيونية «لعبة العروش» (غيم أوف ثرونز). في إعلان دراماتيكي على مدونته الخاصة، أعلم جورج مارتن - كاتب الرواية التي يرتكز إليها المسلسل وأحد كتاب السيناريو- جمهوره العريض بأنه قد تخلف عن موعد تسليم نص الجزء السادس من الرواية للناشر. بالتالي، فإن الموسم السادس من المسلسل، سيكشف عن شكل النهاية لحبكة الرواية قبل وصولها إلى المطبعة. هذا الإعلان الذي تسبب في خيبة أمل القراء، وحماسة متابعي المسلسل وما تبعه من تعليق لمارتن ذاته بأن النهاية في الرواية قد تختلف عنها في المسلسل، وقبلها الفيديو التشويقي القصير وسلسلة البوسترات التي أطلقتها HBO في الدعاية للمسلسل وتظهر الرؤوس المقطوعة للشخصيات الأكثر شعبية في المواسم السابقة، إلى جانب تسريبات المدونات المعروفة لبعض ما يمكن أن تحويه حلقات المسلسل... كل ذلك أخذ الترقب والتشويق لملايين متابعي العمل عبر العالم إلى حدود قصوى وفق خطوات مدروسة ومحددة لتكييف توقعات الجمهور واستدعائه لمتابعة الجرعة القادمة. لكن ذلك بالطبع لا يدين هوليوود، إذ أن إدارة توقعات المتلقين وتشكيل عقولهم أصبحت نشاطاً مرافقاً للعمل اليومي لمؤسسات الحكم والاقتصاد الرأسمالي في ممارسة الهيمنة والتسلط على جمهور المستهلكين.
جورج مارتن قدّم فكراً سياسياً شديد المعاصرة يكاد يجعل من «أمير» ميكافيللي بضاعة كاسدة

«لعبة العروش» أو «أغنية من ثلج ونار»، كما هو اسم السلسلة الروائية للفانتازيا الأنجح في القرن الحادي والعشرين، التي تحكي صراع السلطة والنفوذ بين سبع سلالات حاكمة تتوزع على قارتين خياليتين شرقية وغربية في أجواء مقتبسة من مرحلة حرب الوردتين بين عائلتي لانكستر ويورك في صراعهما على الحكم في إنكلترا العصور الوسطى، ليست مجرد عمل روائي ضخم تحول إلى مسلسل ناجح. إنّها مشروع فلسفي فكري متكامل وشديد التأثير، يندرج في إطار التحضير المدروس لأذهان قطاعات عريضة من البشر المستهلكين لتقبل هيمنة الإمبراطورية ومنحها الشرعية بل حتى الاستدعاء. مارتن وفريق المسلسل (من خلال عملٍ ظاهره دراما متألقة في كل مناحيها من ممثلين إلى مؤثرات بصرية وصوتية إلى أزياء ومواقع تصوير)، قدّم فكراً سياسياً شديد المعاصرة يكاد أن يجعل من (أمير) ميكافيللي نفسه بضاعة كاسدة. «ما بعد الواقعية» السياسية - كما يطرحها مارتن - تقترح عليك بكل بساطة أن تخلص إلى أنّ المناوشات الإقليمية وصراعات القصور المحلية والانتصارات التكتيكية على المنافسين، لا تؤسس لتجربة إنسانية قابلة للاستمرار، بل هي قطع من فوضى شاملة تستهلك حياة البشر في حروب عبثية جانبية وتحول بينهم وبين إمكانية التوحد ــ تحت عدالة الإمبراطورية المعولمة ــ في مواجهة التحديات الحاسمة والأزمات البيئية التي قد تعصف بالكوكب برمته. البديل الذي يقدمه مارتن؟ الرسالة مباشرة: الكيانات السياسية التافهة والقائمة على طموحات سلالات أو أفراد ميكافيللين حد البشاعة مهما كان مصدر شرعيتها، يجب أن تخلي مكانها لمشروع كبير قادر على استيعاب تنوع المجموعات العرقية والسياسية المختلفة في عقد اجتماعي جديد: نحن نحكمكم لخدمتكم... أهلاً بكم في الإمبراطورية المعولمة!
مارتن يكرس هذه الفكرة من خلال ثلاث أدوات سرد ذكية: أولها عبثية العنف اللأخلاقي وفساد الحكم القائم على القهر المحلي، لاستدعاء العدل والمساواة في ظل الإمبراطورية: احكمنا يا كورش الأميركي، نرجوك احكمنا. ثانيها: إعادة تأهيل الآخر بنزع الشيطنة عنه وتقديمه بوصفه هو أيضاً إنساناً له مشاعر وعواطف قد لا تقل نبلاً عن مشاعرنا وعواطفنا، وأيضاً تفسير الظروف الموضوعية والمناخ المحيط بالسلوك الذي رأيناه عدوانياً، وبالتالي تسفيه العداوات المحلية (هذا الإسرائيلي الطيب)، من ثم ــ وهذه ثالث أدوات مارتن ــ صياغة عدو أكبر مشترك. الجدار الشمالي العظيم الموشك على الانهيار، يُكسب تماهينا وتوحدنا تحت ظل الإمبراطورية بعداً وجودياً وأخلاقياً معاً، ويستدعي جنودها ليحققوا بالنيابة عنا جميعاً خلاص الكوكب المأزوم.
في موازاة هذا الطرح السياسي السافر، يقدم العمل أيضاً مواقف متقدمة وربما خلافية حتى بشأن قضايا الأخلاقيات، العلاقات الجندرية وموقع المرأة في المجتمعات، العرق، الطبقية، الدين، ومسائل الهجرة والولاء السياسي وغيرها بوصفها التفاصيل التي تبني اللحم على العظم في بناء ثيمة الرواية – المسلسل. هذا طبعاً كله ضمن نسيج السرد القصصي وبتوظيف كامل لكل أدوات الدراما المعاصرة الشديدة الإبهار. هكذا يجد المشاهد نفسه وقد تلقن أساسيات الثقافة الإمبراطورية بوعي أو بدون وعي وهو مشدوه ومستثار وفاقد للسيطرة تماماً من خلال جرعة أعلى من المألوف من الدماء والعنف والعري والجنس والإباحية والتشويق يتم تقديمها في مزيج درامي لا يمكن مقاومته: أجساد عارية غضة، وصور شديدة الوضوح HD، وموسيقى تصويرية خيالية، ومفاجآت عجيبة، وخدع بصرية، وصوتية تأخذ بلباب العقول.
يوظف مارتن حبكات فرعية عدة في إطار سرده العام ليروج للأفراد العاديين في قاع المجتمع فكرة التمكين: للفلاحين والجنود الهامشيين والعمال المهرة والعاهرات. فأنت - كفرد وحيد شديد الضآلة - يمكن أن تقلب لعبة القوة على الجميع لأن النخبة إنما تقف على أكتافك. يروي أحد الأفلام التشويقية للموسم الثاني «صراع الملوك»، حكاية من الرواية عن ملك وقسيس وثري، وبينهم يقف مرتزق بسيط من طبقة وضيعة يحمل سيفاً. كل من الشخصيات الثلاث يطلب منه أن يقتل الآخرين. الملك يقول: «باسم الشرعية والقانون، آمرك بقتلهما». القسيس يقول: «آمرك باسم الرب أن تقتلهما». الثري يقول: «اقتلهما وخذ كل الذهب». والسؤال هنا: من سيموت ومن سيعيش من الثلاثة؟ جواب الرواية أن الأمر بيد المرتزق الوضيع يقلبه حيث يشاء. هكذا يتشكل في عقول المتابعين إيمان غير واقعي بقدرتهم على تغيير التاريخ من خلال أعمال فردية بائسة كحشاشين جدد، يقتلون ويُقتلون من دون أن يعلموا أنهم أدوات صغيرة في مشروع هيمنة كبير.
ليست «لعبة العروش» إذن مجرد عمل درامي مميز، وطرحها السياسي ليس بسطحية صراعات القوة ودهاليز القصور التي اعتدنا عليها في المسلسلات السياسية الأميركية. إنّها الإمبراطورية مجسدة تتحدث إليكم من قلب غرفة المعيشة. تعالوا إلى حيث العدالة الشاملة، تعالوا إلى الإمبراطورية.

مستشار في إدارة الأعمال وعلاقات الشرق ــ غرب/ لندن