في Fastes et Dévastations (جمال ودمار) الذي تستضيفه «غاليري أليس مغبغب»، تعرض هدى قساطلي جانباً من مشروعها الفوتوغرافي حول اندثار البيوت البيروتية القديمة. يضم المعرض 28 صورة تُودّع فيها المصورة اللبنانية الجماليات المعمارية التي وفّرت لساكني تلك البيوت نوعاً من الحميمية والشاعرية اللتين نفتقدهما في العمارة الراهنة المشغولة بتوظيف المساحات لمصلحة المضاربات العقارية أكثر من اهتمامها بربط السكن مع أمزجة العيش. كأن المعرض مديحٌ لعمارة آيلة إلى الانقراض، وتأبين لها أيضاً.
كأننا أمام فردوس نفقده بالتدريج، لكن فقدانه لا يؤخّرنا عن الاعتياد على بيوتٍ أضيق وسقوف أقل ارتفاعاً، ومساحاتٍ أقل حميمية. تشعرنا الصور المعروضة بأننا نرى جمالاً يتماوت ويتحول إلى ذكرى، فيما نحن عاجزون عن إيقاف ذلك. هكذا، يمكن أن يُضاف المعرض إلى تذمّرنا الدائم من صورة بيروت التي لا تتردد في إزالة إرثها القديم، وبناء معالم جديدة وغريبة على أنقاضه.
المعرض بحثٌ جمالي وأنثروبولوجي. درست صاحبة De Pierres et de couleurs الأنثروبولوجيا قبل أن تتجه إلى التصوير، لكن نتاجها الفوتوغرافي لم يبتعد عن اختصاصها. ما نراه في المعرض هو الطبقة المرئية من التراكم المزدوج المتحصِّل من الاختصاص الدراسي والهواية الفنية. الصور تخدم مشروعها الأساسي الذي بدأ منذ عقدين تقريباً، ووثّقت فيه ذاكرة أحياء وشوارع بيروتية دمرت الحرب الأهلية جزءاً من عمرانها، وتكفلت سنوات إعادة الإعمار، والفورة العقارية المُقلِّدة للمدن الخليجية، بتشويه ما تبقى من نسيج المدينة القديم، وخصوصاً في وسط المدينة وجوارها. الذوق التجاري الجديد أفسد صورة المدينة وحميمية السكن فيها، بينما أضاف القِدَمُ والإهمال طبقة سميكة من النسيان على ما تبقى من تراثها المعماري.
لا تحتاج قساطلي إلى جهد كبير في ضبط اللون والضوء والظل. هناك سخاءٌ فوتوغرافي في العمارة التي تخلِّدها في صورها. عمارةٌ تبدو متصالحة مع بيئتها ومناخها وسلوك قاطنيها، لكنها مضطرة إلى التنحّي جانباً أمام شراسة الأبنية الجديدة الملبّسة بالمرايا والزجاج المعتم. هكذا، يصبح ما نراه صوراً لحيواتٍ سابقة أفلت بأفول الأجيال التي عاشتها، ويكتسب المعرض مذاقاً اعتراضياً واضحاً ضد الطريقة التي تُقضم بها روح المدينة من خلال الترويج لعمارة مستنسخة. صحيح أن ثمة حنيناً ومديحاً لموضوعات زائلة، لكن هذا الحنين لا يقع في السلبية والميوعة العاطفية.
في المقابل، يمكن النظر إلى المعرض بوصفه اقتراحاً لنسخة معاصرة من اللحظة الطللية في الشعر العربي. نستعيد عبارة «قفا نبكِ» في مطلع معلقة امرئ القيس، ونحن نتجول بين الصور. في غياب أصحابها، تحظى صور قساطلي بوحشة مضاعفة. تختصر لعبة الظل والضوء معظم الصور، ويتكثّف تأثيرها على المتلقي عبر مزجها بين جمالية الأمكنة والزوايا المصوّرة، وبين تحولها الحثيث إلى أنقاضٍ وأطلال. تكاد تتناهى إلينا ضجة حياة صغيرة كانت تجري على أريكة متهالكة، أو قرب مجلى في مطبخٍ مهجور، أو بجوار نافذة انهارت ستارتها عليها. نكاد نشمّ رائحة الطلاء المتقشر عن الجدران، ونتخيل تعاقب الليل والنهار على أنصاف القناطر الزجاجية المزخرفة التي تعلو الجدران، وتفصل غرف النوم عن الصالونات. لقد انتهت الحياة التي كانت تجري هنا، والصور باقية لتشهد على ذلك.

Fastes et Dévastations: حتى 17 آذار (مارس) ــــ «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفية ــ بيروت)
للاستعلام: 01/204984



zoom

من نور وتراب




على طريقة الريبورتاجات المصورة لمؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك»، وبالاشتراك مع الباحثة الألمانية كارين بوت، تؤلف هدى قساطلي كتابها «من نور وتراب ـــ بيوت سوريا الشمالية ذات القبب. الكتاب الصادر بالفرنسية والعربية خلاصة رحلة إلى مناطق وقرى سورية لا تزال محافظة على نمط معماري يعتمد على الطين في بناء البيوت والمساحات الملحقة بها. تعود هذه التقنية البسيطة والبدائية إلى خمسة آلاف سنة، لكنها انحسرت بمرور الزمن وانتشار العمارة الحضرية الحديثة، ولم تعد هناك إلا حفنة من معلمي هذا النوع المتوارث من البناء.
هكذا، يصبح الكتاب «تحية لهؤلاء البنائين الذين لم يدّعوا العظمة ولم يحوزوا الشهادات الهندسية، إلا أنهم عرفوا كيف يبنون بيوتاً متواضعة نجحت في التآلف مع محيطها من دون أذيّة». فكرة تصالح هذه العمارة مع بيئتها هي جوهر الكتاب الذي يمتدح هذا النمط من السكن البشري، لكنه يُخفي نقداً مبطناً وعنيفاً لأنماط العمارة المعاصرة وأساليب العيش في المدن المكتظة والشاهقة، حيث تتضاءل المساحات الخضراء، وتضيق الأنفاس بالمساحات المستغلة على نحو متوحش، وتصبح المدن عدوّة الشريحة الأعظم من مواطنيها.
لا تطالب مؤلِّفتا الكتاب بنبذٍ كليّ لما اعتدنا العيش فيه، ولا تتوقعان أن يسهم كتابهما في الترويج للعمارة التي تحتفيان بها. ربما لن نرغب في ترك بيوتنا، لكننا لن نستطيع تجاهل الجمال العذب المنبعث من الصور التي التقطت للبيوت وتفاصيلها المعمارية الداخلية. كأن ما نراه يعود لمحميات معمارية قديمة. نستغرب أن البيوت مسكونة، وساكنيها يحظون بحياة يومية عادية. نشاهد صوراً لغرف المعيشة والضيوف والنوم والمطابخ ومخازن المؤونة والاسطبلات، وصوراً للباحات والأبواب والأسوار والنوافذ وأحواض النبات والنقوش الترابية، وصوراً أخرى لورشات الطين التي تتم فيها صناعة الطوب المخصص للبناء. نقرأ عن وظيفة القباب في توفير البرودة اللطيفة في الصيف والدفء في الشتاء. اللون الطيني للبيوت يصنع حواراً عذباً مع السماء الزرقاء، ويُشعرنا أن ساكنيها على علاقة مباشرة بعناصر الكون.
كما في أعمالها الأخرى، هناك مزج بين الهاجس الفوتوغرافي والبحث الإنساني في الكتاب. تجولت كاميرا قساطلي في 222 قرية سورية، وعادت بعشرات الصور المدعّمة بوصفٍ معماري وأنثروبولوجي لموضوعاتها. هكذا، يصبح الكتاب مرجعاً تاريخياً، إضافةً إلى كونه ألبوماً فوتوغرافياً مدهشاً.
حسين ...



فلاش

صديقة البيئة



كما في كتبها ومعارضها الأخرى، تمزج هدى قساطلي بين الهاجس الجمالي والبحث البيئي في معرضها الحالي. منذ نهاية الحرب اللبنانية، وعلى امتداد عشرين عاماً، اشتغلت المصوِّرة والاختصاصية في الأنثروبولوجيا والتقاليد البشرية على تخليد بيوت بيروت القديمة التي هُدِّمت أو في طريقها إلى الهدم، إضافة إلى اهتمامات موازية مثل تعقّبها للرسوم والعبارات المكتوبة على الشاحنات، وتأويلاتها الاجتماعية والأدبية. نشرت مجلدات عديدة تضمنت توثيقاً فوتوغرافياً وسردياً للأمكنة والأحياء البيروتية التي تتضاءل مساحاتها بالتدريج. شغفها المزدوج قادها في رحلاتٍ استكشافية إلى بيوت الطين في سوريا التي تعتبرها «صديقة الطبيعة، لأنها لا تضع مسافة بين ساكنيها وبين بيئتهم الأصلية، وهي مبنيّة من التراب الذي ستعود إليه يوماً ما».