حين كتب خالد خليفة روايته «مديح الكراهية» (2006) عن الصراع الدموي الذي دار في نهاية السبعينيات بين السلطة والإخوان المسلمين في سوريا، كان يظن أنه يعود إلى جرحٍ قديم بات ممكناً تحويله إلى حكاية. إلا أنّ الأوضاع المتفجرة في سوريا أعادت الرواية إلى الواجهة. لا تشبه الأحداث الحالية ما جرى في الماضي، لكنها توحي بأن سوريا أمام طبعة جديدة ومنقّحة لـ «كراهية» يجري «مديحها» من أطراف متعددة.
الرواية التي مُنعت من التداول في سوريا، استُقبلت بحفاوة من النقاد والقرّاء، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية سنة 2008، وترجمت إلى لغات عدة، وطُبعت مراراً، لكن يبدو أنّ الطبعة الأهم تحققت في اليوميات الدامية للانتفاضة السورية، التي يرى محللون كُثر أنها باتت تهدد بخراب البلد أو بحرب أهلية طويلة، في ظل صعوبة حسم الصراع، وانتشار رقعة الاحتجاجات والاشتباكات على الأرض.
لا يُنكر خليفة وجاهة هذه المصادفة التاريخية التي «تؤلمه أكثر مما ترضي غروره ككاتب». يقول إنه يسمع أن الرواية تحظى اليوم بقراءات جديدة، لكنه ينفر من فكرة أن يكون في ذلك نبوءة ما. «من مآسي الثورات وسخرياتها أن يكون كاتب مثلي مبشِّراً أو لديه رسالة مباشرة»، يقول الروائي السوري، الذي التقيناه على هامش ندوة «الكتابة في زمن الثورات»، التي أقيمت منذ أيام في الجامعة الأميركية في بيروت. «كان طموحي أن الرواية هي سردٌ لزمن انتهى، ولن يأتي كاتب سوري للحديث عن زمن مماثل، لكن يبدو أن إنتاج السلطة للقمع ما زال مستمراً وبشراسة أكبر».
رغم القتل اليومي، وصمود النظام، وانقسام المعارضة، يقف صاحب «حارس الخديعة» ضد التدخل الخارجي، ويعلن تفاؤله بأن «الثورة ستنتصر في النهاية»، ويرى أن «المعارضة السياسية هي الخاصرة الرخوة للثورة»، وأن الأهم هو «تظاهرات الناس المستمرة في الشارع». قبل الثورة، كان يعتقد بأنّ أفضل ما حصل في حياته أنه كاتب، إلا أن الثورة جعلته وحيداً وعارياً أمام لغته، وراح يسأل نفسه: «كيف سأكتب يوماً هذه الروايات الشجاعة التي تحدث في الشارع؟». يعترف بأن أي كتابة حالية ستكون متسرعة وضعيفة، وبأنه يرى نفسه كأي مواطن ثائر «مادةً للكتابة»، وأن «تأجيل الكتابة ممكن، أما الثورة، فلا يمكن تأجيلها».
قبل انفجار الوضع في سوريا، كان خليفة يضع اللمسات الأخيرة على رواية جديدة سمّاها «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة». كان طموحه هو كتابة رواية تصنع مسافة سردية وأسلوبية عن رواياته الثلاث السابقة، كما في «مديح الكراهية»، تدور أحداث الرواية في حلب، لكنها تطرح أسئلة مختلفة عن أكثر من أربعة عقود جرى فيها تدمير أحلام شرائح واسعة من المجتمع السوري. لا تحتوي الرواية على حوادث كبرى، بل «تحتفي بتفاصيل حياة الطبقة الوسطى التي خفضت السلطة السياسية سقفها العالي إلى مجرد الاكتفاء بالعيش في أمان». «هي رواية حزينة» يقول خليفة. يذكِّرنا ذلك بقول المعارض السوري ميشيل كيلو عن «مديح الكراهية» بأنها كانت «مرثية لسوريا». يتعزز ذلك بتأكيد خليفة أن الرواية الجديدة هي «بحثٌ سردي عن الهوية السورية الضائعة». هكذا، سعى إلى الابتعاد عن سمعة «مديح الكراهية» التي كرّست اسمه في الصفوف الأولى لرواية جيل كامل من الروائيين السوريين والعرب، لكنه وجد نفسه غارقاً ـ وإن بطريقة مختلفة ــ في الواقع الذي أنتج تلك الكراهية. الرواية مكتوبة بلغة عارية وبسيطة تشبه لغة قصيدة النثر اليومية، مقارنةً بلغة روايته السابقة «المكتوبة بالسكين». «ليس للرواية علاقة بالثورة»، يقول لنا، لكنها تقول للقارئ «لماذا يثور السوريون اليوم».



الدراما الأهم

بدأ خالد خليفة اسماً واعداً في ثمانينيات الشعر السوري، لكنه انتقل بسرعة إلى الرواية. حضرت اللغة الشعرية في باكورته الروائية «حارس الخديعة» (1993)، وذابت في لغة قريبة من مناخات الواقعية السحرية اللاتينية في روايته الثانية «دفاتر القرباط» (2000)، قبل أن تضعه «مديح الكراهية» في صدارة ما سُمّي منعطف الرواية الجديدة في سوريا. إلى جانب ذلك، انغمس في فورة الدراما السورية من خلال مسلسلات مميزة، ويجري حالياً تصوير آخر أعماله بعنوان «المفتاح». بالنسبة إليه، «ما يجري حالياً هو الدراما الأهم التي ستحتاج إلى شجاعة روائية يمكنها تأريخ شجاعة السوريين اليوم».