تونس | ليس غريباً أن ينصهر المسرح، والرقص، والرسم، والموسيقى في عمل فنّي واحد. لكن أن يجمعه فنان بين كلّ هذه الفنون في شخصه، فذلك أمرٌ نادر. في العادة، ينحاز المبدع إلى اختصاص واحد دون آخر. وهذا ما لا ينطبق على التشكيلي والسينوغراف والموسيقي التونسي قيس رستم (1954). عرفناه كسينوغراف في المسرح، وخصوصاً في أعمال الفاضل الجعايبي ... لكنّ رستم لا يمانع في أن يكون له أكثر من عشيقة في الفنّ، وأن يعاشر أكثر من شكل فنّي في الموسم الواحد. قبل أيّام، افتتح رستم معرضه الفردي الأوّل بعد الثورة التونسيّة في مكتبة «ألف ورقة» في مدينة المرسى، في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة.
سلسلة لوحات زيتية، كشف فيها الفنان المتعدد عن الطّفل المتمرّد الكامن فيه.
يبدو أنّ قيس رستم قرر أن يترك الشارع في 14 كانون الثاني (يناير) 2011 للمتظاهرين، ويغلق على نفسه باب خلوته الذاتيّة، وراح يعبر عن تمرّده على طريقته. في لوحاته، تتجلّى تركيبته الخاصّة في توليفة تجمع بين روح موسيقى السطمبالي التونسية التقليدية، وبين شيء من نخبويّة مسرحيّة تنسحب على أعماله المسرحيّة، هو الذي رافق توفيق الجبالي، والفاضل الجعايبي في العديد من أعمالهما. تتسرّب إلى لوحاته أنغام السطمبالي المغرقة في الميتافيزيقا الأفريقيّة، بقالبها المعتمد على الآلات الإيقاعيّة، وقلبها الذي يستمدّ مواضيعه من الأساطير الشعبوية. هذه التركيبة المسافرة بين الأضداد، تبرز جليّة في رغبة هذا الفنّان يكسر القوالب والخروج عن التسميات، حتى لو تحول هذا الخروج إلى هدف بحدّ ذاته.
في افتتاح معرضه، حدّثنا رستم عن تجاربه في الموسيقى، والرسم، والسينوغرافيا، ويرجعها كلّها إلى مرحلة الطفولة. غرام والده بالفنّ، وتأثّره بأخيه الممثل هشام رستم، قاداه إلى اختيار الطريق نفسها. «أوّل عهدي بالرّسم، كان خلال زيارتي لورشة التشكيلي نور الدين الخياشي، وكان صديقاً لأبي. أثّر بي ذلك الرجل كثيراً، بأناقته المثالية، ودماثته. كان يمسك الريشة بيده، كمن يمسك كأس شمبانيا». تلك الزيارة دفعت بقيس إلى الالتحاق بكليّة الفنون الجميلة في تونس، حيث تأثّر بالتشكيلي الحبيب شبيل. تركها لاحقاً ليسافر إلى بلجيكا عام 1976، حيث تخرّج حاملاً شهادة في السينوغرافيا مطلع الثمانينيات. هناك مارس هوايته المفضّلة، أي الموسيقى، وتحديداً موسيقى السطمبالي التقليدية التونسيّة. منذ طفولته، التصق التصاقاً شديداً بشخصية بوسعدية الزنجي المتنكر الذي كان يجوب الشارع راقصاً خلال الاحتفالات. هكذا تعلّم العزف على آلة القمبري، وانخرط عازفاً في فرق عدّة خلال الثمانينيات منهاN’Goma Percussions ،Eko Kuango. أثرت تجربته تلك على علاقته بالمسرح، حيث أثث عروضه على مساحات راقصة ... وتوّج تلك العلاقة في عرضه الموسيقي المسرحي الراقص DJAM الذي أنتجه عام 2010، مشتغلاً على العلاقة بين الفضاء والصوت، وموسيقيّة الفضاء المسرحي.
يبدو قيس رستم مقتنعاً بأنّ المسرح يمنحه فرصة للخلق والتجدّد، خصوصاً وهو يذكرك دوماً بعلاقته المميّزة مع الفاضل الجعايبي. وكيف ننسى عمله على سينوغرافيا مسرحيّة «خمسون» الّتي طالتها أيدي الرّقابة قبل خمس سنوات، من دون أن ننسى بصماته على «يحيى يعيش» العام الماضي. «يظلّ الرّسم بالنّسبة إليّ وسيلة تعبير لا أكثر، فما الذي يمكن لشخصي المتواضع أن يضيف على أعمال كتلك التي أنجزها بيكاسو وفان غوغ؟ لهذا لم أبحث عن الانتماء إلى أيّ مدرسة فنية ولا عن محاولة فرض شكل فني خاص. أمّا بالنّسبة إلى المسرح فلا يزال مجالاً مفتوحاً للإبداع».



على الخشبة

رغم علاقته الوثيقة بالرسم والموسيقى، تبقى تجربة قيس رستم المسرحيّة هي الأكثر ثراءً. كثّف تجربته المسرحيّة منذ عودته من بلجكيا إلى بلاده الأم، إلى جانب تدريسه السينوغرافيا في «المعهد العالي للفنون الدّراميّة». كما أعدّ سينوغرافيا لأعمال مسرحيّة راقصة مع نوال اسكندراني بعنوان «تباين»، إضافةً إلى سلسلة «كلام الليل» مع توفيق الجبالي. وكان آخر تعاون بين رستم والجبالي في مسرحيّتي «فمْتَلاً» و«برج الحمام» مع مسرح «فو». وقد كان لقيس رستم إنتاجه الخاص الذي تتصدره تجربة «كاليغولا» (1992). «مشكلة السينوغرافيا تتمثل في كونها ترغمك على مشاركة خيالك مع الآخرين».