■ في «معبد أنامل الحرير»، كان «المتكتم» سيد الظلمات يرى أنّ الأصل هو المنع والاستثناء هو الإباحة. هل توقّع فرغلي ولو في أسوأ كوابيسه ما يجري الآن للمبدعين في مصر٬ أحمد ناجي نموذجاً؟

ورغم أنني في «أبناء الجبلاوي» ثم في «معبد أنامل الحرير»، قدمت تصوراً تنبؤياً، لما يحدث الآن؛ سواء في موضوع كتب محفوظ أو سجن الأدباء، فإنني أردت فقط إطلاق صيحة تحذير، ولم أرغب في التوقع. لم أتوقع شيئاً، فكل خبر من هذا النوع لا يزال يصيبني بالذهول، منذ واقعة نصر أبوزيد، وصولاً إلى وقائع منع تدريس كتاب «الأيام» في المدارس عام 2013، وسجن الأديب كرم صابر، ثم المفكر إسلام بحيري والشاعرة فاطمة ناعوت وأخيراً الروائي أحمد ناجي. المصادرة والمنع بالنسبة إليّ يبدوان أخباراً قادمة من عصور محاكم التفتيش. أما سجن كاتب بسبب عمل أدبي، فهذا عمل يفوق قدرتي على الإدراك. مع ذلك، إزاء ما يحدث حولنا من محاولات مستميتة لتجهيل المجتمعات العربية بمساهمة البترودولار عبر تواطؤ الأنظمة مع ذلك أو توظيف دعاة، أو ضخ أموال للإخوان، أو التسلل المدروس للوعي عبر التعليم، وخلاف ذلك... إزاء ذلك كله، كان جلياً أننا لا بد من أن نواجه في النهاية هذا القدر التعيس.

ـــ هل «التابو» الديني جزء من الأزمة المطبقة على العالم العربي بخاصة مصر؟
طبعاً، تابعي ردود الفعل على موضوع أحمد ناجي (الأخبار 22/2/2016) من الجمهور. ستجدين كلمة الرذيلة تتردد كثيراً في الخطابات المتعاطفة مع حكم السجن. الأمر نفسه كان جلياً خلال أزمة كرم صابر، وفي كل الظواهر الشبيهة. لا يزال الكاتب في العالم العربي، بسبب هذا التابو، يتعرض إمّا للسجن أو الجلد أو القتل على يد الجهلة أو حتى على يد السلطات، وفي المنطقة العربية كلها بلا استثناء. إنّه تابو يتغذى بدأب وبتمويل منظم، من جهات تريد تهيئة المنطقة للحكم الديني، ويتغذى أيضاً بالقصور الذاتي منذ أكثر من ثلاثة عقود، عبر نظم تعليم تلقينية تمنع التفكير وتشجع على خلق آلات بشرية قابلة لتفجير نفسها والعالم في أي لحظة. وبسببه، ترفل منطقتنا العربية السعيدة في بحيرات الركود والتخلف والظلم التي نعيش فيها.

ـــ هناك اتهامات عديدة للنظام بأنّه يخشى عداء المؤسسة الدينية، بخاصة السلفيين٬ لذا لا نرى سوى محاكمة من استجابوا لدعوة تجديد الخطاب الديني٬ بينما من يصرخون بتكفير الجميع هم أحرار٬ ما رأيك؟
وارد جداً طبعاً. الثقافة العامة للسلطة في مصر، كانت تعيش على منطق نفاق السلطة الدينية، وهذا هو دور الأزهر السياسي بوضوح. وأخشى أن يكون هذا الأمر استمراراً لهذا المنطق الذي نعاني بسببه من هذه المآسي. ما يلفت الانتباه حقاً أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني، تناقضت مع أحكام ازدراء الأديان المتلاحقة التي ابتلي بها المجتمع خلال الفترة الأخيرة، ما قد يوحي أنّ الأزهر يضغط لاستعراض سلطته. والأمر الثاني أن منظومة القضاء أيضاً محافظة بحكم تكوينها، خصوصاً الأجيال التي نشأت بعد انتهاء الفترة الليبرالية في مصر، وأقصد الأربعينيات والخمسينيات. هناك واقعة مهمة أشار إليها الكاتب حمدي أبوجليل حين تعرض مع الكاتب الراحل إبراهيم أصلان للتحقيق في قضية رواية «وليمة لأعشاب البحر»، فقد أشار أن التحقيق استمر معه لمدة تسع ساعات، وأن المحقق، وهو الآن كاتب روائي، كانت أفكاره محافظة وإخوانية، آنذاك. لكن دعينا لا نتناسى في الوقت نفسه كيف أن كل هذه الوقائع تمت بتحريض مباشر من شخصيات في المجتمع أيضاً، كأغلب الذين رفعوا الدعاوى القضائية على الكتاب والمفكرين.
تولت السعودية خلخلة الجينات المصرية الخاصة بالتسامح وفرضت منظومة قيم على المجتمع


ـــ ألا ترى أن المثقفين يدفعون فاتورة استعلائهم وهروبهم إلى عوالمهم المنفصلة عن الشارع؟
في الحقيقة المثقفون قد يكونون ضحية استعلائهم، لكن دعينا لا ننسى أنهم أساساً ضحايا المجتمع المدني أيضاً. إذا كان دور المثقف الدفاع عن الحرية، والنقد والتحذير، وإجلاء مفارقات المنظومة التشريعية المزدوجة، فإنه كان حرياً بمنظمات المجتمع المدني أن تلعب دوراً في تفعيل مبادرات لحل هذه الأزمات باقتراحات واضحة لتغيير بند الدستور الثاني الخاص بدين الدولة، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، ثم يأتي دور المثقفين لدعمها، لأنهم في النهاية أفراد وليسوا كيانات منظمة. وربما ينسحب ذلك على اتحاد الكتاب الذي كان محسوباً على السلطة باستمرار، وتعتمد قوته على رئيسه، ولكنه ككيان لم يفعل ما ينبغي أن يقوم به لإيقاف حالة العنف المجتمعي والتشريعي ضد حرية التعبير.
ـــ هناك آراء تدفع باتجاه أنّ حبس ناجي جاء على خلفية مقالاته التي هاجم فيها السعودية ووصفها بأنها وجه الوجه الآخر لـ «داعش»٬ ما رأيك؟
لا شيء مستبعداً، وإن كنت أتساءل أيضاً في النهاية من هو ناجي بالنسبة إلى السعودية؟ لقد قامت السعودية عبر المصريين العائدين من العمل فيها بخلخلة الجينات المصرية الخاصة بالتسامح، وفرضت منظومة قيم بدأت بالحجاب وانتهت بالنقاب، وألقت لنا بخميرة جديدة للسلف والإخوان، سرعان ما انتشروا في البلد بقيمهم وتدينهم الشكلي ومظهرهم المستلب من مشاهد الصحراء قبل مئات السنين. منظومة راحت تضيق الحصار على المصريين باسم الدين والأخلاق، وتغلغلت في كل زاوية في البلد، في أجهزة الرقابة، والهيئات الحكومية والإعلامية والنشر الحكومي والخاص...

ــــ لوحظ أن حملة التضامن مع ناجي أقوى من التضامن مع إسلام بحيري والشاعرة فاطمة ناعوت٬ هل السبب برأيك أنّ الأخيرين تعرضا للتابو الديني على عكس ناجي المتهم بـ «خدش الحياء العام»؟
طبعاً، وهذا يؤكد ليس فقط تجذر هذا التابو في وعي المجتمع فقط، بل أيضاً في ضمير كثيرين ممن يؤمنون بحرية التعبير، كأنهم يريدونها «حرية مشروطة». حرية مهذبة ونظيفة وفق شروط ما. هذا الاختلاف في درجة التعاطف خطير جداً لأن سؤال التابو الديني في الحقيقة ليس سؤالاً عن الله أو ضرباً أو انتهاكاً للشريعة كما يحلو لبعضهم رؤيته، بل هو غلاف كبير لأسئلة عديدة عن العدل، وأسباب الظلم والرحمة. وهي أيضاً أسئلة عن المساواة، وحق المرأة في مجتمعات تستقوي على تلك الحقوق باسم الشرع والدين، وعن الكيفية التي تضرب بها السلطة السياسية والدينية، عرض الحائط بكل قيم العدل باسم الدين.

■ من وسائل مقاومة الظلام الذي فرضه «المتكتم» في روايتك «معبد أنامل الحرير»، الكتابة على أجساد النساء اللواتي كن يخرجن مدثرات بالسواد. وباتفاق مسبق، كن يتوازين في صف٬ يخلعن ملابسهن٬ فتشع أنوار المعرفة والفن التي نقشت على جلودهن. لماذا الكتابة تحديداً؟ أما كان يمكنك اللجوء مثلاً إلى تناقل تلك المعارف والكتب بالحفظ كما فعل الكاتب الأميركي راي برادبري في «٤٥١ فهرنهايت»؟ ولماذا اخترت النساء؟
لجأت إلى حلّ الحفظ في «أبناء الجبلاوي»، خلال مشاهد مسابقات حفظ أعمال محفوظ. لكني هنا أردت التأكيد على مسألة أخرى. كانت مسألة الحفاظ على التراث المعرفي من الضياع، تخضع لإشراف التدوين والنسخ. لكن فكرة السيدات المتشحات بالأسود اللواتي سيلعبن لاحقاً دور المخطوطات العاريات، مثّلن رمزاً لتحدي المعرفة للقوى المحافظة بالخيال، والجرأة، والتأكيد على أن الثورة السياسية ينبغي أن تسبقها ثورة معرفة، وأيضاً لأنني أؤمن بأن تحرير جسد المرأة هو المختبر الحقيقي للحرية، ولتوضيح الفارق بين الدعوة الى التحرر وبين الدعوة الى الحرية. التحرر هو إزالة الإنسان للقيود التي تعوقه حتى يتمكن من تحويل الحرية إلى أسلوب حياة. كان حل المخطوطات العاريات رداً على الدعاوى الثورية لمواجهة سلطة «المتكتم»، ولتأكيد أنّ أصحاب دعاوى المواجهة يفتقدون ليس فقط إلى الخيال، بل إنّهم لم يتحرروا من أسلوب السجان، الفاشي نفسه ويريدون مواجهته به، حتى لو كان ما يستعيرونه منه فقط إقصاء من يختلف معهم. لعلني أضيف هنا، أنني حين أتأمل وسائط التواصل الاجتماعي، أو حتى تعليقات بعض الثوريين على الأحداث، أكتشف أن مصر لم تعد تعاني فقط من الترييف الذي انسحب من الريف إلى المدن بكل قيمه المحافظة والعشوائية، بل إنّ المستجد الآن هو تأثير الأحياء العشوائية بكل قيم الفوضى والابتذال والسوقية على السينما والشارع والحياة اليومية وأخيراً على لغة الثوار. فكيف يقيم الابتذال عدلاً أو منظومة أخلاقية جديدة، مهما كانت المنظومة المراد تغييرها مبتذلة وفاشلة؟

■ خمسة أعوام مرت منذ صرخة محمد البوعزيزي٬ فهل كان الربيع عربياً حقاً؟
السؤال لا يزال يحتاج الى لكثير من التدقيق. لا شك في أن ما قبل الانتفاضات العربية يختلف عما بعدها، ولا يوجد مواطن عربي اليوم لا يتحدث في السياسة ويفكر في الحرية والكرامة والعدل. والمهم أن نزيل الأوهام التي تغشي أبصارنا حتى نفهم ونرى. هل كانت هناك مؤامرات؟ بالتأكيد. فهل الثورات مؤامرة؟ قطعاً لا. خرج الناس فعلاً من أجل الثورة على القهر والاستبداد وسوء مستوى العيش. لكن لا ينبغي أن يتناسى أحد، في مصر خصوصاً، أو يغفل، أن الثورة في 25 يناير، أو الثورة على الإخوان في 30 يونيو لم تحققها إرادة النخبة فقط، أو فئة دون أخرى، بل حققتها إرادة الجمهور، فلا يتناسى أحد الدور الحقيقي للجماهير التي حققت إرادتها وليست إرادة أي فئة. وحين تبين لها مخطط الإخوان، عادت لتصحيح الأمور. أكرر أننا تعاملنا مع الثورة ونحن نحمل أغلفة الكتب الثورية البراقة بين أيدينا. وحين انفرطت على أرض الواقع وانزلقت لتختلط بالتراب، كان علينا أن نزيل الأتربة ونفهم لماذا وقعت من بين أيدينا، وأن نعيد تأملها وقد اختلطت حروفها بالأتربة والغبار. علينا أن ندرك أن ما جاء في تلك الكتب هو نتاج تجارب أخرى؛ ثورات، وشعوب، وظروف أخرى. ثوراتنا، إن كانت هناك ثورات، ينبغي أن تدون بدمائنا وأحبارنا نحن ووفق وعي كامل بظروف مجتمعاتنا، وطبقاتها. من دون ذلك لا أمل في أي تغيير. علينا أن ندرك أن الثورة والواقع والمستقبل هي تفاصيل على أرض الواقع، ولا توجد أي منها أبداً خلف شاشات الكمبيوتر، مهما كان صخب شاشات الواقع الافتراضي وضجيجها.

ـــ في «أبناء الجبلاوي»، اختفت روايات نجيب محفوظ وسط مجتمع ظلامي، فظهرت شخصياته حية بين الناس لتدافع عن نفسها، وفي «معبد أنامل الحرير»، تصبح الرواية هي المدافع عن مبدعها تكتب سيرته، بل تقتفي أثره. إلى أي مدى يخلد الفن والإبداع صاحبه ومجتمعه؟
إلى أبعد مدى يمكن تخيله، حضارة مصر القديمة تعيش بيننا إلى اليوم لأنها خلدت بالإبداع والجمال والأدب، والحضارة الأندلسية فعلت ذلك، وكل حضارة عظيمة أخرى، وكما قال الراحل أنسي الحاج، فإن جمال العمارة الفرنسية وحجم الفنون فيها هو ما جعل حتى هتلر يمتنع عن تدميرها. الجمال أقوى من الدم. وصحيح أن هذا ليس هو وضع «داعش» اليوم. لكن السؤال هو: مَن اختلق «داعش»؟ وكيف بلغ خبثه لأن يختلق مرتزقة لا هم لهم، إلا تدمير الفنون كوسيلة للقضاء على حضارات العالم القديم؟ سيظل الفن والأدب والجمال خط الدفاع الأخير للحفاظ على البشرية من الجنون مهما بلغت الهستيريا حدها. سوف تظل الجنة الضائعة هي الحلم البشري الحقيقي لا الجحيم.