اعتمدت الجمعية العامة في الأمم المتحدة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» عام 1948. ومنذ ذلك التاريخ صدرت مئات المواثيق والمعاهدات والصكوك الدولية حول حقوق الإنسان. لكنّها، أقله عربياً، بقيت في معظمها حبراً على ورق. الدليل الذي أنجزه الناشط اللبناني محمود محمد مصري قبل رحيله بعنوان «حقوق الإنسان وأدوار المنظّمات غير الحكومية»(دار نينوى ـــ دمشق/ مركز تطوير ــ بيروت) وحرّرته عفراء هدبا، ينطوي على مفارقة كبيرة، لجهة انتهاك حقوق الإنسان من جهة، ومساعي منظمات المجتمع المدني العربي في فضح هذه الانتهاكات من جهة أخرى. ستة عقود على هذا الإعلان، لم تؤثر في الأنظمة العربية في ما يخص انتهاك مبادئ حقوق الإنسان، رغم توقيعها معظم المواثيق الدولية في هذا الشأن.
هكذا سعت المنظمات غير الحكومية إلى العمل في شروط قاسية لتفعيل هذه القرارات والمواثيق باتجاه تعزيز الديموقراطية، والتنمية البشرية المستدامة، والحقوق المدنيّة والحريّات العامة، وإشاعة ثقافة التسامح والتنوّع واحترام الآخر، والشفافية.
عدا توثيق القوانين والمعاهدات، يضع هذا الدليل طرقاً لممارسة العمل الميداني في منظمات المجتمع المدني، وأرشفة أبرز المصطلحات والمفاهيم في ميدان حقوق الإنسان، والأسس المهنيّة للتسيير والإدارة في هذه المنظمات. في الجداول المرفقة، سجلٌ كامل لاتفاقيات حقوق الإنسان وبنودها، ومواقف الحكومات العربية منها، والمبادئ المتعلِّقة بالمؤسسات الوطنية لحماية حقوق الإنسان. بالنسبة إلى المواطن العربي، فإنّ قراءة بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ستصيبه بصدمة، لن يستيقظ منها بسهولة. إذا امتحن نفسه في الحقوق التي حصل عليها، وأتت في ثلاثين مادة، فسينال علامة صفر بالتأكيد. أينما توجّه، سيجد عقبة في طريقه. سوف يتلمّس أعضاءه، وهو يقرأ المادة الخامسة مثلاً: «لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة السيئة أو العقوبة القاسية التي تحطّ من إنسانيته وكرامته». وسيبتسم بمرارة للمادة التاسعة، متذكّراً رعبه أمام كوّة الأمن في المطارات. «لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً». لكن ماذا بخصوص المادة 19، أليست نوعاً من الفكاهة المسليّة. نقرأ: «لكلّ شخص حقّ التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريّته في اعتناق الآراء من دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها للآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود».
في جدول آخر، نتوقف عند نحو150 معاهدة تخصّ حقوق الإنسان، تحمل دمغة الأمم المتحدة، وتواقيع الدول الأعضاء عليها، ورفض دول أخرى الموافقة على بعض هذه المعاهدات، وخصوصاً تلك التي تتعلق بالتمييز العنصري، وحقوق المرأة، وجرائم الإبادة الجماعية. لكنّ بنوداً أخرى، ستنال موافقة جماعية، ليجري انتهاكها لاحقاً، مثل «المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء»، و«حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري»، و«اتفاقية المساوة في الأجور»، و«معاملة أسرى الحرب»، و«استخدام التقدّم العلمي والتكنولوجي لصالح السلم وخير البشرية». عربياً، امتنعت بعض الدول عن توقيع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصاً في ما يتعلّق بالحقوق السياسية، وأشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية المناهضة للتعذيب، وحماية حقوق العمال المهاجرين وأسرهم.
تفاؤل محمود مصري في الدور الذي أدته المنظمات غير الحكومية في مراقبة حقوق الإنسان في العالم، لا يبدو في مكانه، ذلك أن معظم التقارير التي ترصد خلالها هذه المنظمات انتهاك حقوق الإنسان تنتهي إلى الأدراج المغلقة في مكاتب الأمم المتحدة، تبعاً لسطوة هذه الدولة أو تلك، في المنظمة العالمية، إضافةً إلى تبعية بعض هذه المنظمات لأجندات خاصة، تنفي عنها دقة المعايير في توثيق تقاريرها. سياسات واستراتيجيات هذه المنظمات على أهميتها في تنشيط الحراك المدني، ظلّت في موقع شبهة من الحكومات العربية، ولطالما طورد ناشطون في هذا المجال، وأُغلقت مكاتبهم. هنا يلفت محمود مصري إلى ضرورة اتباع منهجيّات بديلة وابتكارات جديدة في تفعيل عمل هذه المنظمات، والانتقال من ضفّة التعريف بمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان إلى ضفة أخرى تتمثل بتوجيه اللوم إليهم في عملها.
لعل أهمية هذا الدليل تكمن في توقيت صدوره، ففي ظلّ ما يحدث من انتهاكات في العالم العربي اليوم، كم تبدو الحاجة ملحّة لمراجعة حقوق الإنسان المهدورة في وضح النهار.