تونس | «اكتفينا بتنظيم مسيرة حداد، بعدما ألقوا علينا البيض، وهشّموا واجهة المسرح البلدي، وأتلفوا المعدات». هذا ما قاله نائب «رئيس الجمعية التونسية لمتخرجي معاهد الفنون الدرامية» حمادي المزي أمام المتخرجين الذين نظّموا الاحتفال بـ«يوم المسرح العالمي» في شارع الحبيب بورقيبة (تونس العاصمة) أوّل من أمس الأحد. شهد هذا الشارع أكبر تظاهرة احتجاجية خلال الثورة التونسية العام الماضي، وها هو اليوم يشهد دخول البلاد التدريجي في خريف طويل من القمع ومحاصرة الحريات. ما حدث أثناء الاحتفال بـ«يوم المسرح العالمي»، لا ينذر بالخير.
الجمعية التونسية الناشئة التي تضم أساتذة مسرح وأكاديميين وفنانين، ويرأسها الجامعي معز مرابط (عرفه الجمهور في أعمال الفاضل الجعايبي)، أرادت الاحتفال بفنون الشارع، فقررت تنظيم تظاهرة بعنوان «الشعب يريد المسرح من جديد»، لمشاركة الناس بهجة فنون الفرجة. ولهذا الغرض، تلقّت دعماً تقنياً ومعنوياً ومادياً من وزارة الثقافة، ومؤسسة «المسرح الوطني»، ومندوبية ولاية العاصمة للثقافة.
وفي اليوم نفسه، قررت جمعيّة «نصرة كتاب الله» (الصورة) ـالتظاهر في الشارع نفسه «لنصرة كتاب الله». الهدف المعلن من المسيرة هو «التنصيص على الشريعة الإسلامية في الدستور». تجمّع أنصار الجمعية الدينية منذ الصباح أمام «المسرح البلدي»، وهو المكان نفسه الذي اختاره المسرحيون للاحتفال تحت شعار «الشعب يريد المسرح من جديد». حاول بعض السلفيين كسر اللافتات التي عرضت عليها ملابس مسرحية «عطيل» لعلي بن عياد، وتعدّ من إرث المسرح التونسي في الستينيات. لكنّ المسرحيين تمكنوا من إقناعهم بضرورة احترام الذاكرة المسرحية والانسحاب من المكان. من جهتهم، حاول بعض المشايخ إقناع المتظاهرين السلفيين بالانسحاب إلى الجهة اليمنى من شارع بورقيبة، بقرب الساعة العملاقة، حيث سمحت لهم وزارة الداخلية بالتظاهر. جرى الأمر في البداية بهدوء، إلا أنّ السلفيين عادوا للتجمّع أمام «المسرح البلدي»، رافعين راياتهم السود، وشعارات تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتطهير البلاد من «المفسدين». من جهتهم، حاول المسرحيون الدفاع عن أزياء «عطيل»، و«ديدمونة»، وما بقي من لحظات الزمن الجميل. أقامت قوّات الشرطة حاجزاً بين الطرفين، لكنّ المتظاهرين السلفيين نجحوا برمي البيض على المسرحيين، وهشّموا الواجهة الزجاجية لـ«المسرح البلدي» الذي احتضن أبرز عروض المسرح، منذ مطلع القرن العشرين، وكلّها عروض تراها مجموعات السلفيين اليوم، أعمال تفسّخ أخلاقي.
وزارة الداخلية سارعت إلى نفي مسؤوليتها عما حدث، على اعتبار أنّها «سمحت للسلفيين بالتظاهر في مكان بعيد عن المسرح». في الخلاصة، حُرم المسرحيون تقديم عروضهم المقررة و«يوم المسرح العالمي» في تونس، كان يوماً للاعتداء على حرية الإبداع، كأنّه فصل آخر يأتي بعد فصول الهجمات على صالة «آفريكا آرت»، و«قناة نسمة».
واقعة «المسرح البلدي» أججت الاحتقان في قلوب التونسيين الذين ضاقوا ذرعاً بعروض السلفيين المهددّة للحرية. وبدأت تعلو بعض الأصوات علناً، لتسأل عن مصير البلاد في ظلّ حكم الإسلاميين. تونس التي كانت من أولى الدول العربية التي ترسي تقليد الاحتفال بـ «يوم المسرح العالمي» كمناسبة للبهجة والدفاع عن الحياة، فقدت عاداتها الجميلة، واستعاضت عن ستائر المسرح، بالرايات السود، فمتى سينتهي هذا العرض السوريالي الكئيب؟ فهل فتح «الربيع العربي» نار جهنم على المبدعين؟ أليست هذه مفارقة تضعنا أمام سؤال كبير عن حقيقة ما يحدث في المنطقة العربية التي تطفئ في كل يوم أنواراً، لترفع مكانها أصوات التطرف والجهل؟