في فيلمه الأول «سمعان بالضيعة» (2009)، تناول سيمون الهبر (1975) أحداث تهجير المسيحيين من جبل لبنان خلال الحرب الأهلية (1975 ـــ 1990). روى لنا قصّة عمّه سمعان الذي اختار العودة إلى الجبل كي يرعى البقر بعيداً عن المدينة. اليوم في شريطه الثاني «الحوض الخامس» الذي عرض أخيراً ضمن «مهرجان شاشات الواقع» في «متروبوليس أمبير صوفيل»، يسرد المخرج الشاب فصلاً آخر من فصول الحرب على لسان أبيه وأصدقائه من سائقي الشاحنات التي كانت تنقل البضائع من مرفأ بيروت. إنّها رحلة نجول فيها على شخصيات عايشت زمناً مضى مع انتهاء الحرب. لكن، هل نجح صاحبنا في تقديم شيء جديد عن ذلك «الزمن الأسود»؟ يتجسد الفيلم في ثلاث مساحات: الجبل، والمرفأ، ومساحة مستحضرة من الخيال والروايات. في اللقطات الأولى، تتقاطع الصورة بين آليات المرفأ، والطبيعة الجبلية، والشخصيات التي تشكّل نقطة التماس بين هاتين الجغرافيتين. زمانياً، يعود بنا الهبر إلى الستينيات، لتنتهي بنا الحال أوائل التسعينيات. مع ذلك، لا يستعين بمواد أرشيفية تساعده في إدخال المشاهد إلى أجواء الفيلم، فالأرشيف هنا ينبع من ذكريات الشخصيات.ينطلق الوثائقي مع الأب نجم الهبر المتنقل منذ صغره بين بيروت والجبل. يخبرنا الرجل الكهل عن المرة الأولى التي قصد فيها بيروت بحثاً عن العمل وهرباً من الريف. يفشل هذا المخطط عندما يكتشف أبو نجم مكان عمل ابنه في مقهى «الجندول». سيعود نجم إلى القرية، ليعمل في الأرض وتربية الحيوانات. لكنّ وفاة الأب ستسمح للابن بالعودة إلى بيروت، لتبدأ رحلته مع شراء الشاحنات والعمل في المرفأ. بعد نجم، يتوالى ظهور السائقين الآخرين. يروي كل واحد قصة وصوله إلى المرفأ، وذكرياته في ذلك المكان. ينقسم زمن الشهادات التي تدلي بها الشخصيات إلى حقبتين. الأولى تتناول فترة ما قبل الحرب، حيث تعود أسطوانة ذلك الزمن الجميل إلى الدوران عبر يوميات هؤلاء الرجال. يخبرنا كل واحد عن فيلمه المفضل، لينفضوا الغبار عن «أبي فوق الشجرة» وأفلام بروس لي. يخبروننا أن ثلاثين سيخ شاورما كانت تباع كل يوم في ساحة البرج «التي ما كانت تنام». تتوالى الحكايات عن الزمن الجميل الذي انتهى مع بداية الحرب الأهلية. هكذا، ندخل الحقبة الثانية. نصغي إلى مغامرات السائقين في المرفأ الذي سيطرت عليه «القوات اللبنانية». لا بدّ لنا من الخروج بعبرة، حين يخبرنا هؤلاء كيف أبعدوا شبح الطائفية عن المرفأ رغم السعار الطائفي الذي أصاب المجتمع اللبناني. كان العمال المسلمون يساعدون أصدقاءهم المسيحيين في الهرب إلى بيروت الشرقية، بينما ساعدهم المسيحيون في النجاة من مجزرة «السبت الأسود». هكذا، نجول بين هاتين الحقبتين، إلى أن نقترب من المشهد الأخير. حركة انسحابية للكاميرا من المرفأ، مروراً بالجبل، وختاماً مع نجم الهبر الذي يخبرنا عن حلمه بالعودة إلى القرية لقضاء ما تبقّى من حياته. من المؤكد أن «الحوض الخامس» يقوم على جمالية عالية من حيث التأطير، وحركة الكاميرا، والألوان. لكن الهبر يتفلّت من نجاح فيلمه الأول الذي استطاع عبره أن يطلّ على لبنان بأسره. في هذا الشريط، يروي الهبر ذكريات سائقي الشاحنات في إطار تمجيدي، لتطغى النوستالجيا على كل ما يريد قوله.

تستعدّ «متروبوليس أمبير صوفيل» لطرح سبعة أفلام وثائقية في أيار (مايو) المقبل من بينها فيلم سيمون الهبر «الحوض الخامس» وشريط نديم مشلاوي «القطاع صفر»



يا زمان الطائفية

يندرج «حوض الخامس» ضمن الموجة المعاصرة التي عمت لبنان وشجعت الأعمال الوثائقية في بلد لا ذاكرة، ولا كتاب تاريخ له. هكذا، خُصّصت لها التمويلات المحلية والأجنبية والمهرجانات. وفي بداية التسعينيات، شاهدنا أعمالاً تحمل تلك النفحة النوستالجية والتمجيدية لحقبة الستينيات والحرب. ثم في أواخر التسعينيات، تبلورت أعمال في السينما، والعروض المسرحية، والفنون التشكيلية قطعت مع الماضي، وبدأت تبحث في حاضر مدينة جديدة بدأ يتشكل بعد الحرب. لكن أين سيمون الهبر من الواقع الجديد الذي حطّم توجّهاً كان غارقاً في نبش «زمن القتل على الهوية»؟