بعد قراءة رواية جديدة له العام الماضي، بحثت على شبكة الانترنت عن حوار أو حديث معه بلا جدوى، قبل أن أتيقّن من أمرين اثنين: الأوّل أنّ الكاتب لا يجري حوارات صحافية، والثاني أنه يحرص على عدم نشر صورة شخصية له. عند إعلان فوزه بـ«بوكر العربية» تساءلنا إن كانت أسطورة الاختفاء ستنتهي، وأيّ صور فوتوغرافية للروائي الغامض ستخرج الآن. بدا واضحاً أنّ صاحب «دروز بلغراد» نجح في تجنّب المصوّرين الذين لم يظفروا سوى بصور مواربة، تعمّد صاحبها الإشاحة بوجهه عن الكاميرات.
يبدو فوز كاتب مثل ربيع جابر بجائزة انتصاراً للموهبة البريئة من العلاقات العامة. الموهبة التي لا تعوّل على شيء من خارج الكتابة. في مجتمعات الثقافة العربية التي تكاد إحداثياتها تخلو من القيمة، يضرب لنا ربيع جابر منذ سنوات درساً بليغاً في الجهد ورهان القيمة. في حوار مع سارتر قبل وفاته، يقول الفيلسوف العجوز بأنّه ليس معجباً بمعاصريه من الكتاب، لأنّه يعرفهم جيداً. بدا مترّفعاً عن الإعجاب لأنّ الإعجاب في نظره يتضمن شعوراً بالنقص. يقول لنا ربيع بنتاجه، إنّ مهمة الكاتب الأساسية هي كتابة الكتب، وليست الغرق في التفاصيل الاجتماعية لـ«الوسط الأدبي».
ورغم عمله في الصحافة كمحرّر أدبي في جريدة، إلا أنّه يحسد على هروبه منها كساحة اجتماعية تنوء بما ينوء به المجتمع من غياب للمعايير وقابلية للإفساد. لا شيء لدى جابر سوى روايات نوعية وإخلاص يائس للكتابة. يمكن لقارئ ما أن يتذكّر الآن أبطال رواياته المضادين، هوس بعضهم بالحديث عن ألوان الطعام واكتفاء بعضهم بكفاف البطاطا المسلوقة والشاي. يتذكّر القارئ المطابخ والأسرّة والغرف الكئيبة ومهاوي الذاكرة، فكرة الهرب من العالم، الصداقات المخذولة، الحب الذي يعجز حتى عن إنقاذ نفسه، حفنة من الشاي الناشف تُلقى في مياه تغلي. جمله القصيرة المحتفظة بظلال اللغة المحكية، ابن النثر اللبناني التي درّبته الصحافة، المزاج الكئيب والنبرة الشخصية التي تراوح بين البراءة والمأساة... نعجب بربيع جابر لأننا لم نمتلك إخلاصه اليائس للكتابة، نحن الذين ضللتنا لبعض الوقت أوهام وطوابق مختلفة.