لم يعرف الجاز في تاريخه فترة أهم من الأربعينيات، وخصوصاً على مستوى ظهور الأساطير. أما العقدان التاليان، فكانا الأغنى لناحية الابتكارات والتسجيلات التي أنجزتها تلك الأساطير. في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تواجه أيامها السوداء، شهدت أميركا في ذاك العقد صعود معظم «الأدمغة» في عالم الجاز، من تشارلي باركر، وديزي غيلسبي، وتيلنيوس مونك، إلى بيل إفنز، ومايلز دايفس، وجون كولتراين وباد باول، وكثيرين غيرهم. وأهمّ حدث عرفته تلك الفترة هو ولادة الـBe-Bop، أو آخر مدرسة عرفها الجاز. رموز هذا التيار كثر، لكن غيلسبي وباركر ومونك كانوا أعمدته. هذه السنة تصادف الذكرى الثلاثين لرحيل الأخير ... وهو من دون شكّ أحد العمالقة الذين عرفهم القرن الماضي.
من هو تيلنيوس مونك الذي ودّعنا في شباط (فبراير) من عام 1982؟ إن وقعْت على تسجيل مصوَّر لعازف أسود يجلس خلف البيانو، يعتمر قبعة غريبة غالباً، ويضرب رجله اليمنى بالأرض، بالتزامن مع الإيقاع، (عوضاً عن استخدامها للضغط على الدواسة اليمنى لآلته)، تحوم يده اليسرى فوق المفاتيح قبل أن تسقط فجأة على واحدة أو مجموعة منها، وقد يراقص البيانو أثناء العزف، أو يتركه ويرقص حوله منخطفاً... فهذا يعني، بما لا يحتمل الشك، أنّك تشاهد تيلنيوس مونك. ماذا إذاً عن التسجيل الصوتي؟ كذلك، إن وقعْت على مقطوعة جاز تتصاعد أنغامها من الراديو ولفتتك مساحات الصمت الكثيرة فيها أثناء الارتجال، ومسّتك قدرة النوتات القليلة في التعبير، وفاجأتك انزلاقات من الطبقات العالية إلى الطبقات المنخفضة للبيانو من حين إلى آخر، ولاحظت أن لا صدى للنوتات بسبب عدم اللجوء إلى الدواسة اليمنى للآلة (التي تؤمّن الصوت المتواصل)... فهذا يعني، بما لا يحتمل الشك أيضاً، أنك تسمع تيلنيوس مونك. هذه كلها ماركاته المسجّلة التي صنعت شخصيته الفريدة.
مونك هو رمز السخاء في الجمال، رغم شدّة اقتصاده في وضع النوتات. إنه الحِرَفي الذي يتقن لعبة التكثيف، حيث لكل نوتة مبرِّر وجودها. تماماً بعكس باد باول وآرت تايتوم، عملاقيْ المهارات على البيانو في الجاز بدون منازع، علماً بأن ذلك لا ينتقص من مكانتهما الكبيرة.
ولد مونك عام 1917. تعلم العزف على البيانو بين الدراسة والعصامية. عام 1941 انطلقت مسيرته من «مينتون بلايهاوس»، النادي الذي وُلد فيه البي - بوب على يديه إلى جانب باركر وغيلسبي ودايفس وغيرهم. بدأ مونك التسجيل مع أهم الفرق آنذاك. كما استقل في تسجيلات ضمّ معظمها مقطوعات من تأليفه، وهذه ميزة تتخطى شخصيته كعازف بيانو أو كمرتجِل خطير. فمونك هو من أهم المؤلفين الموسيقيين في تاريخ الجاز. مكانته كعازف تتساوى مع كثيرين من زملائه ولو أنه عازف البيانو «رقم 1» في البي - بوب. لكن قيمته كمؤلف تتخطى كثيرين، وتتساوى مع قلة (ديوك إلينغتون مثلاً)... إنه في النهاية واضع نوتاتRound Midnight، الجوهرة التي تنتمي إلى فئة المؤلفات المرتقية إلى الجمال الفائق النقاوة. مثلٌ كلاسيكي من هذا الطراز: الـ Aria الذي يفتتح بها باخ مجموعة «تنويعات غولدبرغ».
لمونك عشرات الألبومات التي حَوَت مؤلفاته أو مقارباته لكلاسيكيات الجاز. على رأسها يأتي Straight No Chaser (1966) وUnderground (1967)...
مطلع السبعينيات، انكفأ مونك. بات قليل الكلام. لا يلمس مفاتيح البيانو إلا نادراً. وحُكي عن ظهور اضطرابات عقلية لديه. في عام 1982، رحل إثر سكتة دماغية، بعد حياة صاخبة عاش خلالها، كمعظم زملائه، تجربة المخدّرات ومتاعبها... لكنه ترك لنا ما أدرك ربما أنه يبرِّر (بل يستحق) هذه المتاعب.