دمشق | «لم أختر اسمي ولا عائلتي ولا بلدي... عليّ إذاً أن أختار موتي»، هكذا قال النجم السوري خالد تاجا (1939 ــ 2012) ذات مرة في حديث له مع «الأخبار». وبالفعل فقد جهّز قبره وخط على شاهدته: «مسيرتي حلمٌ من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثمّ مضت». وتحت هذه العبارة أضاف: «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا». كأنّه يقول للموت، لك أن تأتي متى تشاء. رحل خالد تاجا ليلة أمس في «مستشفى الشامي» في دمشق بعد أيام من المرض، تضاربت خلالها الأنباء عن صحته.
انسحب الممثل السوري بهدوء بعد سيل شائعات نعته قبل وفاته، كأنّه اختار وقت الرحيل الذي يناسبه. رحيل دراماتيكي أكثر من الأدوار التي لعبها على الشاشة، أضيف إليه تعرّض بيته للسرقة أمس، ضمن موجة النهب التي تجتاح البيوت. السارقون استغلوا وجود عائلة تاجا إلى جانبه في المستشفى، ليسرقوا البيت المليء بالتحف الفنيّة. بطل «رجال تحت الشمس» يشيّع اليوم من جامع الزهراء في المزة (طلعة الإسكان)، ويرجّح أن يوارى في ثرى مقبرة الزينبية في حي ركن الدين الدمشقي، مسقط رأسه.
طوال أربعة عقود، بقي تاجا واحداً من أعمدة الدراما السورية، وأحد أيقوناتها. منذ بداياته، عشق فنّ التمثيل الذي احتل مساحة كبيرة من طموحاته وأحلامه. اختار أن ينطلق في مسيرته من أبو الفنون، فانضم إلى فرقة «مسرح الحرية» في نهاية الخمسينيات. يومها كانت الفرقة تضمّ نخبة من الفنانين الكبار أمثال صبري عياد، وحكمت محسن، وأنور البابا، والراحل عبد اللطيف فتحي الذي اشتهر باسم «أبو كلبشة». خطّ تاجا بداياته على الخشبة، كاتباً ومخرجاً وممثلاً في عروض كثيرة، حتى دهمه سحر الفن السابع.
كان لتاجا دور كبير في انطلاقة السينما السورية، وفي أولى إنتاجات «المؤسسة العامة للإنتاج السينمائي». أدّى دور البطولة في «رجال تحت الشمس» (1970) عن رواية غسان كنفاني مع المخرج نبيل المالح. وتحت إدارة هذا الأخير، أدّى أيضاً دور البطولة في فيلم «الفهد» (1972). حينها كانت السينما السورية تعيش عصرها الذهبي، مع حضور قوي للقطاع الخاص. مع تراجع السينما السورية، توقف تاجا عن التمثيل فترة طويلة، ثم عاد ليحقق نجاحات تلفزيونية كبيرة، في عشرات الأعمال الدرامية، ويحتل مكانةً في ذاكرة الجمهور، من «جريمة في الذاكرة» و«أيام شامية» (1992) إلى «الزير سالم» (2000)، و«الفصول الأربعة» (1999 و2002)، و«التغريبة الفلسطينية» (2004) و«زمن العار» (2009). كذلك كان حضوره ممتعاً في الكوميديا، وخصوصاً دوره في «يوميات مدير عام» (1995).
بصمته الخاصة، وتمكّنه من أداء مختلف الأدوار، من التاريخي، إلى الكوميدي والاجتماعي، جعلت الشاعر الراحل محمود دوريش يطلق عليه لقب «أنطوني كوين العرب». لم يعتذر يوماً عن عدم أداء دور بسبب صغر حجمه. فقد ظلّ يردّد أنه لا دور صغيراً، ولا دور كبيراً، بل هناك ممثل صغير وآخر كبير. هكذا استطاع أن يحصن نفسه من أي هبوط أو فشل، إذ كان يقدم مستوىً عالياً في الأداء، ولو شارك في أعمال هابطة.
حكاية تاجا مع المرض قديمة مر عليها ما يقارب نصف قرن عندما اكتشف أنه مصاب بسرطان الرئة. لكنّه تغلّب على الورم الخبيث في حينه، وواصل حياته بشكل طبيعي، ولو برئة واحدة. ذات مرّة، خضع لعملية خطيرة فرفض التخدير الكامل، وظلّ يراقب مباضع الجراحين تعمل حفراً في جسده، من خلال شاشة مثبتة في جسده. لم يراعِ بطل «الحصرم الشامي» وضعه الصحي، فظل طوال حياته يشرب العرق، ويدخن بنهم، إلى جانب هوسه بالتحف والشرقيات. ملأ بيته بها، وجمعها بشغف شديد، وبقي يرفض إجراء أي لقاء تلفزيوني في منزله، خوفاً على تلك التحف التي كان يرتبها بيده. لم يكن يوفر فرصة للنزول إلى سوق الأثريات في حي مدحت باشا في الشام القديمة، للبحث عن كنوزه الأثيرة.
خبر وفاته حلّ كالكارثة على أصدقائه في الوسط الفني. صديقه المقرب عبد الهادي الصباغ لم يجب على اتصالات «الأخبار». أمّا الممثلة سمر سامي فقالت لنا: «ربما كان يحق لنا أن نحسده على رحيله بهدوء في زمن الموت المفاجئ والقاسي الذي نعيشه». رفيق دربه المثل سليم صبري يتذكّر كيف جمعتهما دروب المهنة منذ الخمسينيات، ويقول: «لا يمكن الموت أن يغيبه؛ لأنه حفر مكانه عميقاً في وجدان رفاقه ووجدان جمهوره العريض». وهذا ما يؤكّده الممثل رشيد عساف الذي يقول إنّه «بالتوازي مع أهمية فنه، فقد كان إنساناً وفناناً ورجلاً عظيماً (...) ولا يمكن أن تتصوّر الحركة الدرامية من دونه».