لم يكن التيار السلفي حاضراً في المشهد السياسي المصري قبل «ثورة 25 يناير». آثر سلفيّو أم الدنيا الانصراف إلى الدعوة والإرشاد على الانخراط في حكومات اعتبروها فاقدة الشرعية «لأنها لا تحكم باسم الشرع الإسلامي». هكذا، نبذوا الديمقراطية واعتبروها كفراً لأنها تستمد شرعيتها من الأغلبية لا من الوحي الإلهي. في كتاب «السلفيون في مصر ما بعد الثورة» (مؤسسة الانتشار العربي ـــــ مركز الدين والسياسة للدراسات) يدرس سبعة باحثين مختصين في الحركات الإسلامية موقع التيار السلفي في مصر قبل الثورة وبعدها. من الناحية المنهجية، ثمة نقاط ضعف شابت الكتاب: التقسيم غير الدقيق للفصول، وتكرار بعض المعلومات، وسيطرة التقريظ على بعض الدراسات، وغياب الرؤية النقدية الهادفة إلى تفكيك الخطاب السلفي في الدرجة الأولى. يحاول الباحثون في دراساتهم تسليط الضوء على عدد من القضايا، من بينها النشأة التاريخية للتيار السلفي في مصر، لا سيما «الدعوة السلفية» التي ظهرت في الإسكندرية في السبعينيات وانبثق عنها اليوم «حزب النور».

وعلى قدر الضبابية التي أحاطت بموقف السلفيين من الثورة المصرية بين ممانع ومؤيّد وصامت، اتّسم خطابهم بتعقيد متزايد لجهة الانخراط في العمل السياسي. فريق يتبنّى الانصهار انطلاقاً من شعار «تغليب المصالح على المفاسد» ويمثله «تيار الدعوة السلفية»، وفريق «السلفية المدخلية» الذي لا يجيز الخروج على الحاكم، وفريق لا يرفض ولا يشارك. وهذا الأخير تتبنّاه جماعة «أنصار السنّة المحمدية». يحاول الكتاب إبعاد تهمة الوهابية عن سلفيي مصر للقول إن التيار السلفي هناك أقرب إلى مدرسة الشيخ ناصر الدين الألباني. ومن أجل تأكيد هذا التوجه، يقارن كاتبو الدراسات بين السلفية الوهابية والألبانية، عبر التركيز على نقطة أساسية، تتمثل في العلاقة بوليّ الأمر. في الفكر الوهابي، لا تجيز هذه العلاقة الخروج على الحاكم أو حتى الاعتراض عليه، بل تقضي نصحه بالسر. أما السلفية الألبانية، فالتغيير عندها لا ينطلق من الهرم السياسي، بل يحصل تدريجاً عبر القاعدة الشعبية. وهذا السلوك أُطلق عليه شعار «التصفية والتربية»، أي يسعى إلى إحداث التحول في بنية المجتمع عبر البناء التحتي (أي الأسلمة).
لا يهدف الكتاب إلى تقديم رؤية نقدية حول سلفيي مصر وعقائدهم، بقدر ما يسعى إلى رسم مقدمات استعراضية طاولت العقائد والرؤى السلفية تجاه المجتمع والدولة. وإذ تعتبر السلفية أن الديمقراطية كفر، فهي تنطلق من نظرية مفادها أن الديمقراطية قد تؤدي إلى وصول غير المسلمين إلى الولاية العامة. وعلى المقلب الآخر، لم يتجه التيار السلفي إلى تغيير موقفه من ولاية المرأة التي تمثّل موضوع خلاف فقهي، باستثناء «حزب النور» الذي سمح بخوض النساء معترك الحياة السياسية، وقد رشح امرأة في الانتخابات البرلمانية التي خاضها.
الخلاف بين السلفيين التقليديين والجدد في مصر لا يتخذ بعداً عقائدياً. يتفقون على الخطوط العريضة للمنهج السلفي، لكنهم يختلفون بشأن آلية التطبيق. ويكفي الرجوع إلى مواقفهم من الثورات العربية ليتبيّن الشقاق الكبير في صفوفهم. وهذا ما أضفى مزيداً من التباين بين الشيوخ المحافظين التقليديين، والاتجاه الجديد الذي يرى أن الظروف الراهنة تسمح بتطبيق المشروع السياسي بعدما تم إعداد القاعدة الشعبية. لا يمتلك السلفيون الجدد الذين أصبحت لهم أحزاب سياسية أي برنامج سياسي واضح تجاه الدولة الإسلامية التي يسعون إليها. يعود ذلك، كما يؤكد مصطفى زهران أحد الباحثين المشاركين في إعداد الكتاب، إلى أنّ التيار السلفي فوجئ بالتحولات التي شهدتها مصر، ولم يكن مستعداً لدخول المعترك السياسي بعدما أمضى تاريخه في الدعوة والتربية. وبصرف النظر عن الاتجاهات السلفية السياسية الناشئة في مصر ما بعد الثورة، يتّسم خطاب السلفيين بالفكر الإقصائي والتكفيري، على اعتبار أن السلفية تمثل الأنموذج الطهراني والصالح، وكل ما عدا ذلك كفر وضلال. لكن المفاجئ ما تكشف عنه دراسة الباحث المصري علي عبد العال الذي يؤكد رفض السلفيين لعمليات التفجير والقتل التي تستهدف الأجانب، وقد بلغت ذروتها في التسعينيات انطلاقاً من قاعدة فقهية.
يضيء الكتاب على «حزب النور»، أهم تيار سلفي سياسي ظهر بعد الثورة المصرية. شدّد الحزب في برنامجه السياسي على هدفين: إقامة دولة عصرية حضارية متقدمة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية واعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع. يرى الحزب في الأقباط «شركاء الوطن»، إلا أنه لم يحدّد موقفه من وصول قبطي إلى رئاسة الجمهورية، وهو في الأساس لم يبدّل رؤيته من ولاية غير المسلم، أحد الثوابت العقائدية التي لم يمّسها أي تغيير. هذا الالتباس بشأن الأقليات وحقوقها السياسية لا نجده عند السلفيين الجدد فحسب، فبرنامج حزب «الحرية والعدالة» الإخواني لا يقل شأناً لناحية الارتباك والالتباس في استعمال مصطلحات غربيّة كالمواطنة والتعددية والدول المدنية. كذلك فإن خطاب «الإخوان المسلمين» لا يزال ضبابياً تجاه وصول قبطي إلى رئاسة الجمهورية. ولا نعلم إذا كانت الإخوانية المصرية تخلّت فعلاً عن نهج «أخونة» المجتمع المصري. ولعل وثيقة التمكين التي وضعتها الجماعة عام 2010 لا تسمح لنا بالمراهنة على تحولات إيجابية، خصوصاً أنّ الإخوان حتى اللحظة يرفضون الاقتداء بالتجربة التركية. وقد أعلنوا سابقاً أنّ الإسلام السياسي التركي يختلف عن التجربة المصرية.
يختزل «السلفيون في مصر ما بعد الثورة» نشوء التيار السلفي وعقائده قبل الثورة المصرية وخلالها وبعدها، محدداً أهم التحولات التي طرأت على النهج السلفي، وإن كانت ظاهرية. كذلك يعتمد بكثافة على المادة التوثيقية. وعلى مدار الفصول، لم نجد أي دراسة نقدية، باستثناء ما قدمه مصطفى زهران الباحث في معهد الدراسات الإسلامية. يعالج الكتاب إحدى أخطر المسائل التي ظهرت بعد سقوط نظام حسني مبارك. وهو إن دلّ على شيء، فعلى تلهّف السلفيين إلى تطبيق أجندتهم التي بدأت معالمها في مشروع قانون «حد الحرابة» (يجيز إنزال عقوبات قاسية على الجناة كالصلب وقطع الأيدي والأرجل) الذي تقدم به أحد نواب «حزب النور». يدفعنا هذا إلى طرح السؤال الآتي: هل سيدفع تطرّف السلفيين حركة الإخوان نحو مزيد من الاعتدال؟ الثابت أنّ العالم العربي أمام «إسلامات»: الأصولية الوهابية في السعودية، الأصولية العسكريتارية الحاكمة في السودان، والأصولية الجهادية المسلحة، والأصولية الإخوانية في مصر، والإسلام السياسي الأكثري في دولة علمانية كما هي الحال في تونس.