قد تكون هجرة المثقفين والأدباء العراقيّين على مدار العقود الثلاثة الماضية قد أدّت إلى إهمال نتاجهم داخل البلاد. ومن بين هؤلاء الشاعر والسينمائي رعد مشتت الذي صدر له أكثر من ديوان. بعد «الجنود» (الفارابي)، و«السجين السياسي» (الريس)، ها هي مجموعته «تشبه اليوم» (الانتشار العربي) تمثّل فرصة للاطلاع على تجربته والاقتراب من اشتغاله الشعريّ.في تجربته تلك، يصل الأداء الشعريّ إلى نموذج من قصيدة نثرية تتفرّد في طرح نفسها بهدوء وبساطة من دون فذلكات. كذلك يتّجه هذا الأداء إلى تسجيل واقعة أو يوميّات تأخذ القصيدة إلى مدى مفتوح من السرد وإدراج قصص وحكايا من الفضاء العام. هذا ما نقرأه في «بداية»: «عبرت الفتاة وراء السور/ وهي تربط/ حزامها/ واستدارت نحو سائق شاحنة/ لاحظ خصرها في المرآة». الواضح في نتاجه هذا حضور السينمائيّ ـــ الشاعر الذي تلاحق عينه أصغر التفاصيل ويضمّنها نصوصه. فالفتاة تضع الهيل في الشاي وتتطلع من النافذة إلى الشارع، باحثة عن حبيبها الواقف عند عمود الكهرباء وهو «دائخٌ في الهيل».

لكن هل هذه العين الراصدة حيّة في كلّ ما نراه من ديوانه؟ لعلّ ظلالها تتسيّد المجموعة بنزعة جليّة، كأنّنا بالشاعر ـــ كما لدى كفافيس ــ كائن متذكر، تستفزّ ذاكرته حادثة أو موقف ما. ويمكن هنا إدراج مقطع من «المساء الهادئ»: «الفتاة المتشبّثة بمقبض الباب/ وهي تعامل سائق التاكسي/لم أميّز/ لون ثوبها»، أو «الجنود غمزوا للمذيعة/ من فوق/ أبراج دبّاباتهم/عند مبنى الإذاعة/ عزيز يا عزيز الحبّ شو لزيز».
هذا الحسّ التوثيقيّ يبدو كمغامرة كتابيّة يخوضها رعد مشتت، هو المرتحل بين عواصم ومدن، تشبّعت ذاكرته بما فيها من صور. الإمساك بشعريّة مشتت، يتبدّى أكثر عندما يبتعد عن الاستشهاد بعبارات مرّت عليه أو سرد حوادث عايشها. هنا يبرع الشاعر في رثاء أخيه سلمان في «اعتراف»: «وأنا في طريقي إليك/ أضعت الأيّام/ وها أنذا أسأل المارّة/ إذا كانوا قد رأوا/ الوقت/ مرتدياً/ طاقية الفجر الزرقاء».
الأهمّ في تجربة شاعرنا العائد إلى بلاده بعد غياب سنوات أنّها تحفّز السؤال عن المساحة التي يتحرّك فيها الشعر العراقيّ الآن على مستوى القصيدة الحديثة وتكثيفها واستثمار اليوميّ ليكون إبداعاً أدبيّاً. قصائد رعد مشتت شاهدة على سنوات من الانكسار والغربة والحزن والفنتازيا العراقيّة، حين يرتبط، مثلاً، مصير فنّان ما بإرادة عريف في الجيش لا يعرف اتحاد الأدباء أو بول إيلوار ولا حتى شارلي شابلن.