أشاعت الصهيونية بطريقة ممنهجة فكرة المنفى بين يهود العالم، ورسّخت عقيدة مفادها أن كل دول العالم لا تعدو كونها منافي يقطنها اليهود، وأنّ إسرائيل هي وطنهم الحقيقي ... والوحيد. في هذا السياق، باتت «الحركة الصهيونية حركة طاردة لليهود من أوطانهم الأصلية المختلفة»، إلى منفى حقيقي متمثّل في وطن وهمي، اسمه إسرائيل. في كتابه «نفي المنفى «الصهيوني» والحنين إلى الجذور العربية ــــ دراسة في «بغداد بالأمس» لساسون سوميخ» (الانتشار العربي)، يفنّد الباحث المصري محمد أحمد صالح حسين فكرة المنفى، كما نجحت الصهيونية في زرعها في أذهان وأرواح اليهود الآمنين في أوطانهم الأصلية، لتقتلعهم منها لاحقاً، وترميهم في «إسرائيل».
«فهل كان الإحساس بالمنفى موجوداً على مستوى التكثيف والزخم نفسيهما لدى يهود الشرق عموماً، ويهود الدول العربية خصوصاً؟ وهل الظروف التي أوجدت الصهيونية في المجتمعات الغربية وُجدت وتشكلت أيضاً في المجتمعات العربية، فشجَّعت اليهود على ترك بلدانهم العربية؟»، سؤال يطرحه المؤلّف من خلال العودة إلى مذكّرات ساسون سوميخ، الباحث الإسرائيلي من أصل عراقي. تحت عنوان الكتاب العريض، نقرأ عنواناً فرعياً «دراسة في «بغداد بالأمس» لساسون سوميخ». عنوان يحدد وجهة المؤلف الذي اتخذ من سيرة سوميخ (1933)، منطلقاً وأساساً لبناء فكرة كتابه.
ومن خلال تلك السيرة، أراد تبيان أهم الفوارق بين الشخصية اليهودية الأوروبية، والشخصية اليهودية العربية. كتاب «بغداد بالأمس» المشار إليه، هو سيرة ذاتية كتبها سوميخ، الباحث الإسرائيلي العراقي الأصل المولود في بغداد، والمتخصص في الأدب العربي الحديث المعاصر. وجد محمد أحمد صالح حسين في كتاب سوميخ «رفضاً للفكر الصهيوني من ناحية، واقترابه من العرب، وحنينه إلى العروبة واعتزازه بالأصول الشرقية العربية من ناحية أخرى».
قد لا يكون سوميخ أول الكُتّاب العراقيين الذين عبروا عن رفضهم للصهيونية، وتمسكهم بعروبتهم. لكنّ أهمية حالته تأتي من كونه عاش داخل المؤسسة الحاكمة في إسرائيل. وهذا ما يعزز فكرة المؤلف بأن اليهودي العربي والعراقي على وجه الخصوص، لم يكن يشعر بأنه يعيش المنفى في بلاده، إلا أنّ هذا الإحساس تسلل إلى روحه حين اقتلِعَ من جذوره ورحل إلى إسرائيل. يستخلص المؤلف من سيرة سوميخ مصطلح «الاقتلاع نحو البلاد»، وليس التعبير الصهيوني «الهجرة إلى البلاد». يقول لنا إنّ اليهود العراقيين «لم يشكلوا جماعة بشرية منغلقة على نفسها، منفصلة عما يحدث في العالم، تعتزل التواصل مع مجموع المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون حولهم. لم يكن لليهود في العراق حي خاص بهم خلافاً لبقية مدن الشرق». امتزج اليهود في النسيج العراقي، وفي حياة البلاد العامة، ولغتها، وتقاليدها، وظروف حياتها الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية. لماذا إذاً رحل يهود العراق إلى إسرائيل، وهم كانوا أوّل من حارب فكرة الصهيونية، حين أسسوا منظمة «عصبة مكافحة الصهيونية» عام 1945؟ سؤال يطرحه الكتاب ويجيب عنه بوضوح، من خلال تحميل المسؤولية لحكومات العراق المتعاقبة في الأربعينيات والخمسينيات. ويوضح أنّ السلطات في تلك الحقبة تآمرت مع الصهيونية، وراحت تضغط على العراقيين اليهود، لتجبرهم على الرحيل. هكذا، عمدت إلى إسقاط الجنسية العراقية عنهم، وأظهرت تمييزاً مدروساً ضدهم يتمثل في «فصل عشرات من الموظفين اليهود، وتحديد أعداد الطلبة المقبولين في المدارس والجامعات، وتقديم يهود لمحاكمات صورية تنتهي عادة بتنفيذ حكم الإعدام فيهم». هذا ما وضع بين يدي الإعلام الصهيوني مادة دسمة تخدمه وتخدم مصالحه، فتناولها بشيء من التضخيم ليروّع يهود العراق والمنطقة العربية. ثم يصل مؤلف الكتاب إلى «العمليات الإرهابية التي نفذتها إسرائيل في العراق»، لدفع يهود العراق إلى الهجرة إليها، وخصوصاً بعد أيام الفرهود التي أدّت إلى عملية تهجير أطلق عليها «عزرا ونحيما». من هنا، يتضّح لنا أنّ اليهودي العراقي كان ضحية لمؤامرة كبيرة اشتركت بها دول وأنظمة عديدة، أجبرته على الرحيل من بلاده.
لم يكتف المؤلف بمذكرات سوميخ، بل ذهب نابشاً الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، عن مقالات لكتّاب عراقيين من يهود ومسيحيين ومسلمين وصابئة مندائيين، أظهروا اهتماماً واسعاً بقضية تهجير اليهود. كما أنّه لم يقف عند برهنة أنّ الصهيونية حركة طاردة لليهود من أوطانهم فحسب، بل ذهب إلى إظهار الصهيونية على أنّها حركة دعت شعوب العالم ضمناً إلى كره ومحاربة كل يهودي ينتمي إليها، إذ صورت لهم أنّ اليهود جماعة غير فاعلة داخل المجتمع، ولا تهتمّ إلّا بجمع المال، وانتظار الفرصة المناسبة للرحيل إلى إسرائيل. وهنا يضع المؤلف بين يدي القارئ ما كان يطرحه ثيودور هيرتزل من أفكار وتوصيات، وما جاء في كتابه «دولة اليهود»، حين قال «من العبث أن يصبح اليهود وطنيين مخلصين لدولهم، ومن العبث أن يضحّوا بالمال والنفس من أجل هذه الدول، ومن العبث أن يحاول اليهود الإسهام في رفع شأن هذه البلاد في مجالات العلوم والفنون». كأنّه بهذا يدعوهم إلى تأجيل فاعليتهم الإنسانية والاجتماعية لاستثمارها لاحقاً داخل وطنهم المنشود. ولم ينسَ المؤلّف التطرّق إلى عمليات انتزاع الهوية الشخصية من اليهودي العربي حالما يدخل إسرائيل، ويحيل في ذلك إلى ما ورد على لسان بن غوريون: «نحن لا نريد أن يكون الإسرائيليون عرباً، يجب علينا أن نكافح روح الشرق التي تخرّب أفراداً ومجتمعات». وهنا يتضح السبب الرئيسي في اضطهاد اليهود العرب واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية داخل إسرائيل، إذ أصبح تشكيل هوية إسرائيلية لليهود العرب مرتبطاً بقمع أو تشويه هويتهم العربية، أو على الأقل تهميشها تماماً.
يختتم محمد أحمد صالح حسين كتابه بخلاصة يوجز فيها فكرته الأساسية، وهي أنّ العراق عموماً والمجتمع البغدادي خصوصاً، لم يمثل شتاتاً أو منفىً عند ساسون سوميخ كما أرادت الصهيونية أن تصوّره. سوميخ لم يتحدث في يومياته «عن عزلة يهودية أو اغتراب، بل تحدث عن مشاركة في الحياة، وتعاون في الأعمال، وتداخل في التعليم. فإذا كان المنفى بقعة غريبة، أو مكاناً يتعذر فيه الانتماء فإن بغداد لم تكن هذا المنفى بكل مظاهره».