تونس | بعد عرض «خمسون» في «دوّار الشمس» عام 2008، يعود المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي إلى بيروت، ليقدّم عمله الأخير «يحيى يعيش» على خشبة المسرح نفسه (12 و 13/ 5) ضمن فعاليات «مهرجان الربيع». الممثلة والكاتبة جليلة بكار، وأعضاء فرقة «فاميليا»، سيقدّمون مسرحيتهم التي كانت نبوءة حقيقية بالثورة التي اشتعلت في بلاد علي بن عيّاد رائد المسرح التونسي الحديث.
قبل أيام من انهيار نظام زين الدين بن علي، عُرضت مسرحية «يحيى يعيش» (أخرجها الجعايبي وكتبها بالعامية التونسية مع رفيقة دربه جليلة بكار) في قاعة «المونديال» وسط العاصمة تونس. يومها، شاهد العرض أغلب وزراء النظام السابق، لكنّ أحداً من هؤلاء لم يعتقد ربّّما أنه سيعيش أحداث المسرحية بعد أسابيع على أرض الواقع. تعدّ «يحيى يعيش» الحلقة الثالثة في سلسلة أعمال بدأها الجعايبي بـ«جنون» (2002)، ثم «خمسون» (2006)، قبل أن يصل إلى عمله الأخير الذي ماطلت الرقابة التونسية في منحه إجازة للعرض. الخيط الرابط بين هذه الأعمال الثلاثة، هو مساءلة السلطة عن الخراب الذي حلّ بالبلاد طوال 23 عاماً من الحكم البوليسي والقمع. تخبرنا الأعمال أنّ تقنية «الحل الأمني» التي اعتمدها نظام بن علي، لن تنفع في كمّ الأفواه ومصادرة الحريات. لم يتأخر التأكيد الواقعيّ على صحّة أطروحة الجعايبي. خرج الشباب التونسي العاطل من العمل والمثقفون والنشطاء السياسيون إلى الشارع، مطالبين برحيل النظام. أحرجت «يحيى يعيش» السلطة التي كانت على استعداد لمنع العمل، لكن ما حال دون ذلك هو تخوّفها من ردود فعل عالمية مشابهة لتلك التي صدرت بعد منع «خمسون» الذي دام ستة أشهر، قبل أن يفرج عنها بفضل جهود عشرات النشطاء والفنانين في تونس والعالم العربي وأوروبا. يمكن وصف «يحيى يعيش» بأنها مسرحية «انسداد الأفق» بامتياز. فجأة، سيجد يحيى يعيش ـــ المسؤول السياسي الكبير ـــ نفسه ممنوعاً من السفر، وموضوعاً أمام المساءلة القضائية والمحاسبة السياسية بسبب دوره في قمع الحريات ومطاردة النشطاء والسماح لعصابات الفساد بنهب البلاد وتدمير مقدّراتها الاقتصادية. هكذا، سيتحوّل يحيى إلى موضوع يسيل الكثير من الحبر على صفحات الجرائد. يفقد حصانته وامتيازاته، ويُحرق مكتبه في حادثة غامضة، قبل أن يجد نفسه في «العصفورية». تطارَد ابنته بتهمة تعاطي المخدرات، ويتخلى عنه أصدقاؤه الذين تمتعوا طويلاً بنعمه في مشهد تقليدي يعيد رسم العلاقة بين السلطان المخلوع والدائرة المحيطة به. يبني الجعايبي شخصية يحيى بإحكام، مستخدماً أدوات التحليل النفسي التي لطالما رافقته في أعماله المنضوية ضمن إطار مسرح «الآن وهنا». في غياب هذه الأدوات، لن نفهم الإنسان العربي الذي شوّه الاستبداد السياسي نفسيته، وأدخله في موجات من الإحباط والتصحّر الفكري والروحي. يتيح لنا الجعايبي مجالاً للتعاطف مع هذا السياسي الذي وجد نفسه من دون قصد خاسراً في لعبة السلطة وإكراهاتها بعدما كان مثقفاً مفتوناً بكتب الفلسفة. ويبدو أن صاحب «البحث عن عائدة» أراد أن يحيل المتلقي (التونسي خصوصاً) على تجربة رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي، الذي اضطر إلى الهرب من تونس بعد إطاحته، ليحاكم غيابياً في أواخر عهد الزعيم الحبيب بورقيبة. في عرضها الأول الذي تزامن مع عهد بن علي في السلطة، عبّرت «يحيى يعيش» عن الاحتقان السياسي الذي كان يعيشه الشارع التونسي بصمت، بعد سلسلة من الإرهاصات الثورية. بدأت التحركات المناهضة مع ولادة ائتلاف 18 أكتوبر 2005 (ضم قوى يسارية وقومية ونقابية وشخصيات مناضلة ضد الاستبداد في عهد بن علي) الذي أسهم في توسيع العزلة الدولية على النظام السابق، تلت ذلك انتفاضة «الحوض المنجمي» (2008) في قفصة التي مهّدت للانهيار التدريجي لنظام بن علي. في خطابها الرمزي، شملت «يحيى يعيش» كل هذه الأحداث، وفتحت للشباب التونسي ثغرة في جدار كان يعرف بأنه «أصمّ». هكذا، يثبت صاحب «عشاق المقهى المهجور» أنّ الفن رؤيا، واستشراف المستقبل ليس مصادفة دوماً. مسرحية «يحيى يعيش» التي ستعرض في بيروت بعد أيام نموذج عن الأعمال الفنية التي ترى ما سيحدث ولا تكتفي بإعادة صياغة ما حدث. مسرح الجعايبي «نخبوي للجميع» كما يقول دائماً، لكنه قبل ذلك مسرح يحفر عميقاً في البنية النفسية والذهنية للإنسان التونسي.



* «يحيى يعيش» للفاضل الجعايبي: 8:30 مساء 12 و 13 أيار (مايو) ــ «مسرح دوّار الشمس»