عند الاستماع إلى ياسمين حمدان، نعترف بأننا بحاجة إلى تجاوز تراكمات البلاغة العربية المُضلَّلة التي تستنزف فرديتنا الهشّة. ثمّة مشكلة إذاً في التعاطي مع البلاغة بوصفها جزءاً من الهويّة العربيّة، تشكّل وعينا الجمعي. تطفو ياسمين حمدان (1976) خارج هذه المعادلة. في أسطوانتها الجديدة التي عنونتها باسمها (إنتاج Kwaidan)، تواصل هدم هيكل الإسهال التعبيري المتملّق للحب، والوطن، والطبيعة، والحيوانات الأليفة، وسهرة الأمس، وذواتنا التي تُختار، كأننا ربّينا فراغاً، فالتهمنا، إذا استعرنا بتصرّف قول الشاعر فراس سليمان.
هذا الوعي الجمعي اشتغلت ضدّه حمدان مع شريكها زيد حمدان منذ تأسيس فرقتهما Soap kills عام 1997. في ذلك الوقت، كانت بيروت تنظّف أناقتها المفصومة بصابون متخيّل ما لبث أن انكشفت رغوته. إننا إذاً إزاء حالة تعبيريّة تمثّل الموسيقى أحد عناصرها. منذ انطلاقتها، عملت هذه الحالة ضد الجمال المتخيَّل الذي صار بحسب الألماني ثيودور أدورنو «جزءاً من أيديولوجية المجتمع الرأسمالي المتقدم، والوعي المضلّل الذي يخدم الهيمنة المجتمعيّة»، لكن تجاوز هذا الجمال «المتوافق عليه اجتماعياً» كما قال أدورنو، ممكن عبر الموسيقى الطليعيّة التي تصون الحقيقة.
من خلال خمس أسطوانات، ترسخ حضور Soap kills في مشهد موسيقى «الأندرغراوند» اللبنانيّة، لكن شهرتها بدأت فعلياً مع أغنية «يا حبيبي تعال الحقني» التي قدّمت في حفلة حيّة عام 1999. بعد سنة، قدّمت أميمة الخليل مع الملحن هاني سبليني رؤيتها للأغنية ذاتها في أسطوانة «أميمة» (2000).
وإذا كانت الأغنيتان تدّعيان تحديث النسخة الأصلية التي غنتها أسمهان (1940) عن لحن تركي، إلا أنّ الفرق تجلّى في تباين الأداء بين المغنيتين. بينما تؤدّي أميمة أداءً طربيّاً (جماليّاً) في قالب موسيقي حديث، تؤدي حمدان الأغنية بصوت متقشّف خال من التعابير الطربيّة. حتى إن الأداء يبدو كارثياً باعتماده على النشاز، وتعمّد الانزياح في بداية الجمل الموسيقيّة ونهاياتها.
يمكن هذه المقارنة أن تنسحب أيضاً على الأسطوانة الجديدة التي شارك في إنتاجها مارك كولن مؤسس فرقة Nouvelle Vague. في 11 أغنية، تستعيد الفنانة الشابة المقيمة في باريس منذ 2002 مع زوجها المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، تراث المنطقة من لبنان إلى مصر وفلسطين والكويت والتراث البدوي. تميل إلى استعمال الآلات الحيّة وتقترب من الفولك، الذي يطغى على الموسيقى الإلكترونيّة المعدّة مسبقاً.
بصوتها اللامبالي، تتلاعب حمدان بالتراث بالمعنى الايجابي للكلمة. تقدّم أغنية «عرس» الكويتية، و«سمر» باللهجة البدويّة. وكالعادة، تعود إلى كلاسيكيّات الأغنية المصريّة، لتعيد غناء دور «إن كان فؤادي» الذي كتب كلماته أحمد رامي، ولحّنه الشيخ زكريا أحمد لليلى مراد في الأربعينيّات. في هذه النسخة الاستعاديّة، لا يمكن وصف صوت حمدان بالجميل. ولن يدّعي الصوت بأنه يسعى إلى التطريب في قالب موسيقي حديث، ولا يمكننا التفكير في أنّه لو كانت ليلى مراد ابنة هذا العصر، فستؤدي الأغنيّة بالطريقة نفسها. صديقتنا حمدان تخرب المزاج المثالي للدور، تقلب الآهات، تتعمد كسر القفلة في كلمة «الأسيّة» لتحوّلها كلمةً عدميّة لا مبالية. نلاحظ الأمر نفسه في «بيروت» التي أداها أخيراً أحمد قعبور في ألبومه «أحمد قعبور يغني عمر الزعني» الذي يستعيد فيه شاعر الشعب. بينما يبدو قعبور متواطئاً مع صورة بيروت التي يتعمد الزعني التنكيل بها، تقدّم حمدان صورة بيروتية حقيقية للقصيدة. تحوّل المقطع الأكثر شهرة «بيروت زهرة في غير أوانها» إلى «زعرة في غير أوانها». نكتشف أنّ ما تقدّمه حمدان ليس غنجاً بل ركاكتنا، وليس دلعاً، بل هشاشتنا.
www.yasminehamdan.com




آرابولوجي

بدأت ياسمين حمدان مسيرتها في Soap Kills بالغناء بالإنكليزيّة. قبل أن تتجه إلى العربيّة محاولة «سدّ الفجوة الموجودة في المشهد الموسيقيّ اللبنانيّ، بما يمنحها الحريّة للغناء بأسلوبها الخاص» كما قالت في مقابلة مع جريدة «نيويورك تايمز». وهذا ما انقلب عليها لاحقاً بعد غنائها بالعربيّة. في مقابل رفض الإذاعات اللبنانيّة بثّ أغنياتها، وخصوصاً من أسطوانة Bater (2001)، رفضت حمدان عروض الإنتاج الأوروبيّة والعربيّة التي اشترطت عليها العودة للغناء بالإنكليزيّة. حافظت على هذا التقليد حتى بعد إنتاج آخر أسطوانة مع Soap Kills «إنتا فين» (2005)، وصدور أسطوانتها المنفردة الأولى «آرابولوجي» (2009).