تُحيل دراسة خالدة سعيد «يوتوبيا المدينة المثقفة» (دار الساقي) على الأسئلة الكبرى التي يُشغَل بها كثيرون اليوم حول الدور الثقافي لبيروت. يبدو الكتاب رحلة في ماضٍ قريب شهد حراكاً ثقافياً قلّ نظيره مقارنة بالمدن العربية الأخرى وبزمن بيروت الراهن. تسلط الناقدة المعروفة الضوء على حقبة تاريخية مزدهرة شهدتها بيروت قبل اندلاع الحرب الأهلية وخلالها. تدرس خمس مؤسسات ثقافية أطلقها أفراد مبدعون، وهي «الندوة اللبنانية» (1946ــ 1975) و«التجمع الفيروزي الرحباني»، ومجلتا «شعر» (1957ـ 1970) و«مواقف» (1968ــ 1994) و«دار الفن والأدب» (1967ــ 1988)، وتتحدث عن الدور الذي اضطلع به مفكرون وشعراء من أمثال أنسي الحاج، ومحمود درويش، وغسان كنفاني، والمطران جورج خضر، وسعد الله ونوس.
سعيد التي عادت إلى المصطلح اليوناني utopia للدلالة على إرهاصات مدينة طوباوية/ مثالية (غير ماثلة في الواقع) تجهد في تصوير تألق بيروت الثقافي الذي شهد ذروته قبل الاقتتال الطائفي، واستكمل دوره الريادي رغم الكلفة الباهظة.
كسموبوليتية هذه المدينة المشرّعة على الحياة، تفتقد اليوم الكثير من معالمها القديمة. وعلى إيقاع الحيوية الثقافية التي نهض بها أفراد، ترصد صاحبة «الحركة المسرحية في لبنان» المحاولات الجادة التي قام بها مثقفون متنورون ومبدعون في رفد بيروت بحيوات أخرى، تجعل الهم الإبداعي والتثاقفي والتعددي أساساً لها.
حالما يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من الدراسة، يصطدم بإشكاليات كثيرة أهمها: أين هي بيروت من هذا التألق الذي عاشته في حقبة الخمسينيات وبعدها؟ وهل ما زالت تحتضن الهاجس النهضوي/ الثقافي؟ لا نريد الاستشهاد بمحاضرة أدونيس «بيروت اليوم، أهي مدينة حقاً، أم أنها مجرد اسم تاريخي» التي ألقاها عام 2003 في «مسرح المدينة»، لكن من المهم إنعاش ذاكرة الجيل الجديد حول الحقبة التي عاصرتها العاصمة اللبنانية حين كانت في مجدها. لا تحاول سعيد وضع هذا التاريخ أمام الذاكرة المفقودة، بل تعاين بلغة جميلة وسردية سيّالة، الجهد الثقافي الذي نهضت به مبادرات فردية أرادت فقط العمل من أجل الثقافة. وهنا يأتي اختيارها للنماذج المدروسة بغية التأريخ لأزمنة ضائعة في سجل الأحداث المؤلمة التي أسهمت في تراجع ثقافي خطير تعيشه بيروت اليوم.
«الندوة اللبنانية» التي أسسها ميشال أسمر مثلت الأنموذج الأول الذي درسته صاحبة «البحث عن الجذور». شكّل نشاط هذه الندوة ملتقى جمع عدداً من المبدعين، بدءاً من الأب يواكيم مبارك وسهيل إدريس وقسطنطين زريق ويوسف الخال وليلى بعلبكي وآخرين. بعد التحاقهم بمؤسسة أسمر الرائدة، أراد هؤلاء الشعراء والأدباء والعلماء الخروج على التقليد والموروث. دفعت الحوارات والندوات التي كانت تعقد في «الندوة اللبنانية» إلى ولادة الأفكار ومنها طرح مشروع التحديث، فولدت معها مجلة «شعر» التي أسسها الخال عام 1957 تلتها المجلة الأدونيسية «مواقف».
ثمة نقطة مهمة يكشف عنها الكتاب، هي نهوض هذه المؤسسات الخمس في حقبة طغت عليها أسئلة النقد الذاتي ومساءلة الهزيمة. مجلة «مواقف» صدرت في أعقاب نكسة يونيو، وكذلك «دار الفن والأدب» التي أسستها جانين ربيز. إذاً انطبعت هذه الفترة التي عرفت انتكاسات سياسية، بهدف أول هو الخروج عن التقليد والموروث ومقارعة الأيديولوجية، والعودة إلى الإنسان كمشروع حياة، تدور الأسئلة كلها عنه وحوله، وقد تبلور ذلك في مجلتي «شعر» و«مواقف».
تعود صاحبة «في البدء كان المثنى» إلى ما تطلق عليه «التجمع الفيروزي الرحباني» الذي بدأ أيضاً من مبادرة فنية فردية جمعت الثلاثي الرحباني، وكيف شُغل الأخوان وفيروز بهذا الاشتياق إلى التراث القروي، وقد تجلى ذلك في الأغنيات والمسرحيات. الرحبانيون الأوائل الذين عادوا إلى الزمن العتيق، حفظوا ذكريات تفتقدها الأجيال التي أتت بعد الحرب. وهذا العود الأبدي أرْشَفَ لصور ماضية، وإن بدا أحياناً خيالياً.
مجلتا «شعر» و«مواقف» أثارتا زوبعة من النقد، ووضعتا أسساً جديدة للشعر العربي موضوعه الإنسان. تزامن ذلك مع البدايات الأولى لظهور قصيدة النثر. وفي هذا السياق، تؤرخ صاحبة «الاستعارة الكبرى» لأهم المنطلقات الفكرية والحداثوية التي انطلقت منها المجلتان. تضيء الكاتبة على بعض الشخصيات التي أدت دوراً في الحركة الثقافية كالمطران جورج خضر، وأنسي الحاج، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وسعاد نجار، ومحمود درويش، وسعد الله ونوس، ويقتصر اختيارها على هؤلاء الذين وصفتهم بـ«الشجعان الراؤون»؛ لأنها كانت شاهدة على «خصوصية حضورهم».
الكتاب يعكس قلق «مشروع المدينة المثقفة» وتداعيات الحرب الأهلية التدميرية على بيروت، كمجال مفتوح على الأسئلة النهضوية. والأهم أنّ خالدة سعيد لا تفقد الأمل بإحياء مدينتها المرتجاة، رغم أنها لا تبوح بذلك.
يبقى أن الكتاب يمثّل مادة تاريخية للجيل الراهن الذي لا يعرف الكثير عن الحياة الثقافية لبيروت في الفترة التي درستها الكاتبة، ورغم أن هذه المدينة تمر بأزمة ثقافية، لكنها قادرة دائمة على التجدد والانبعاث، فهي كما وصفها المؤرخ أحمد بيضون «مدينة ولود حتى في زمن الحرب».