بمعزل عن آرائه الملتبسة في الصراع العربي الإسرائيلي، واختزاله للقضية الفلسطينية بالتآخي والسلام، يبقى دانيال بارنبويم من أهم الرموز الموسيقية الكلاسيكية. نبدأ من تعريف مهنته الموسيقية. بارنبويم ليس مؤلفاً ولا معداً ولا موزعاً موسيقياً. في لغة الكلاسيك، هو مؤدٍّ من الصف الأول، وبوجهين: قائد أوركسترا وعازف بيانو. في عالم الأداء الكلاسيكي، نقع على العديد من قادة الأوركسترا ممّن لديهم تجربة محدودة في العزف على البيانو.
كما نجد، والحال أكثر شيوعاً هنا، عدداً من عازفي البيانو لهم تجربة في قيادة الأوركسترا، وغالباً من خلف البيانو. لكن قلّما عرف التاريخ رجلاً واحداً بمسيرتين متوازيتين ومرموقتين في الوقت عينه. بارنبويم هو هذا الرجل، وأمثاله قلة وأدنى منه مرتبة أصلاً. أضف إلى ذلك أنه من أغزر الموسيقيين تسجيلاً في التاريخ.
عاش دانيال بارنبويم تجربتين استثنائيّتين في حياته. الأولى ذات طابع إنساني، شخصي وفني، تتمثل في زواجه بأهم امرأة في مجال العزف الكلاسيكي على تشيلو في التاريخ، البريطانية جاكلين دو بريه التي خطفها الموت باكراً عن 42 عاماً (سنة 1987). التجربة الثانية تحمل طابعاً موسيقياً وأهدافاً سياسية مبطّنة، ونقصد تأسيسه مع صديقه المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد «أوركسترا الديوان الغربي ــــــ الشرقي» عام 1999.
من جهة ثانية، ثمة ميزة هامة عند بارنبويم. باستثناء ثُغَر قليلة، لم يهمِّش أي حقبة منذ القرن الثامن عشر ولغاية القرن العشرين، ولم ينسَ مِن هذه الحقبة أو تلك أي مؤلف كبير أو أي عمل ذي قيمة. أما تسجيلاته، فنكتفي بأبرزها، إذ يستحيل مجرّد تعدادها هنا. أصدر مع زوجته تسجيلات كثيرة، حيث قاد الأوركسترا أو رافقها على البيانو. نذكر هنا تسجيلاً رائعاً لكونشرتو التشيلو لإدوارد إلغار، العمل الذي سجلته جاكلين أكثر من مرة بقيادة آخرين (يمكن مراجعة فيلم «هيلاري أند جاكي» الذي يعطي فكرة جيدة عن المسألة، رغم ركاكته سينمائياً). كما اشتهر الرجل بقيادة أعمال ريشارد فاغنر، عدو السامية اللدود (وهذه مسألة بحد ذاتها، إذ جلبت لبارنبويم المتاعب، الشكلية أحياناً في الدولة العبرية). سجّل لموزار سوناتات البيانو والكونشرتوهات وغيرها. من ريبرتوار بيتهوفن سجّل الكثير أيضاً، وأحياناً أكثر من مرّة (السوناتات والكونشرتوهات والسمفونيات،...) وكذلك لشوبان ومندلسون وتشايكوفسكي وشوستاكوفيتش وبروكوفييف وباخ (تسجيلات غير موفّقة)، واللائحة تطول.
أما «أوركسترا الديوان الغربي ــــــ الشرقي»، فقد قادها عشرات المرات، وأصدر معها تسجيلات متوسطة القيمة عموماً (تشايكوفسكي، بيتهوفن، شونبرغ...). هذه الأوركسترا هي ثمرة الصداقة التي ربطت إدوارد سعيد ببارنبويم، تماماً مثل الكتاب الوحيد الذي حوى حوارات بينهما. بداية نشير إلى أن الرجلين ربطتهما علاقة موسيقية أولاً. المفكّر الفلسطيني الراحل هو باحث في الموسيقى الكلاسيكية، وأصدر كتابات في النقد، بالإضافة إلى أنه عازف بيانو. أجرى الصديقان نقاشات حول الموسيقى والمجتمع في التسعينيات. بعضها كان علنياً، وبعضها الآخر جرى بعيداً عن الأضواء. لاحقاً، وضعاها بتصرّف آرا غوزيليميان، المدير العام والمستشار الفني لـ«كارنغي هول» الذي انتقى أبرزها لتصدر في كتاب Parallels and Paradoxes (2002). وفي عام 2005، عرّبته نائلة قلقيلي حجازي (الترجمة تحتاج إلى بعض التنقيح) ونشرته «دار الآداب» تحت عنوان «نظائر ومفارقات».
هذا الكتاب هو مرجع قيّم في التحليل الموسيقي الكلاسيكي، وخصوصاً في ما يتعلّق بمسألة الأداء، وفاغنر، وبيتهوفن، والفن والثقافة والمجتمع... عموماً، يتمحور النقاش حول الموسيقى بشكل مجرَّد، أو يتمّ ربطها بالسياسة والتاريخ والمجتمع، أو يُركَّز الحديث حول مسائل اليهود والنازية، وإسرائيل وفلسطين، فتحضر الموسيقى استطراداً أو مباشرةً (فاغنر اليهود، فاغنر/ النازية، إسرائيل/ فاغنر،...).
باستثناء مقاطع قليلة تفلت من أي إشارة إلى الموسيقى، يصعب على غير الملمّين الجدّيين بالموسيقى الكلاسيكية الفهم الدقيق للمعنى المقصود من هذه النقاشات، حتى عندما تتمحور حول السياسة والمجتمع. لكن، بعيداً عن الموسيقى، يشكّل الكتاب، وخصوصاً الفصل المستقل الذي كتبه سعيد بعنوان «بارنبويم وتحريم فاغنر»، مرجعاً ضرورياً لكل من ينشط في مقاطعة إسرائيل. إلى جانب قضية إسرائيل/ فاغنر/ بارنبويم، يقارب سعيد التطبيع مع العدو بعمق وصراحة نادرين. يسعى إلى تشذيب مبدأ المقاطعة من دونكيشوتيته، ويقدِّم اقتراحات عملية، قد لا نوافق عليها كلها، لكن، على الأقل نحترم كونها نتيجة تحليل منطقي بعيد عن الدوغمائية.
ختاماً، إنّ رفضنا القاطع لدخول المايسترو الإسرائيلي الأراضي العربية، يجب ألا يؤثر على تقويمنا له كموسيقي. في الواقع، إنّ جهلنا و«أصوليتنا» هما أقوى سلاح يملكه العدو ضدّنا. فما يطمْئِن إسرائيل، على المدى الطويل أن نسدّ آذاننا لسمفونيات بيتهوفن بقيادة إسرائيلي، ونشرّعها لبعض أناشيد المقاومة العديمة القيمة موسيقياً.